شباب الأحياء الشعبية في العراق يصنعون شهرتهم الرقمية

تتغير معالم الشهرة بسرعة في العراق، ومعها تتبدل معاني المكانة الاجتماعية. فمن الأزقة الشعبية في بغداد والبصرة ومدن الجنوب، يصعد اليوم جيل جديد من "المؤثرين" (influencers) الذين وجدوا في الهواتف الذكية نافذة نحو جمهور أوسع.

ميدل ايست نيوز: تتغير معالم الشهرة بسرعة في العراق، ومعها تتبدل معاني المكانة الاجتماعية. فمن الأزقة الشعبية في بغداد والبصرة ومدن الجنوب، يصعد اليوم جيل جديد من “المؤثرين” (influencers) الذين وجدوا في الهواتف الذكية نافذة نحو جمهور أوسع وفرصة لإعادة رسم صورتهم أمام مجتمعٍ كان يضعهم لسنوات طويلة على هامشه.

بحسب بيانات مركز الإعلام الرقمي الحكومي، بلغ عدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في العراق نحو 34.3 مليون شخص عام 2025، أي ما يعادل 73.8% من إجمالي السكان، مع تسجيل نمو ملحوظ لمنصة تيك توك تحديداً. هذا الاتساع الرقمي سمح بدخول فئات جديدة من المستخدمين، خصوصاً من الأحياء الشعبية، حيث باتت الأجهزة والمعدات متاحة بأسعار منخفضة أو مستخدمة، والفضاء الافتراضي متاحاً للتعبير وتحقيق التفاعل، وربما الدخل أو الشهرة.

في مدينة الصدر شمالي بغداد، يعمل كرار في ورشة حدادة صغيرة، لكنه بات أيضاً صانع محتوى يتابعه عشرات الآلاف عبر “تيك توك”. يقول: “أصوّر مقاطع قصيرة من عملي اليومي في صنع الأبواب والنوافذ مستخدماً هاتفي البسيط. لم أكن أقصد الشهرة، لكنني أحببت أن أُظهر جانباً مختلفاً من حياة العمال”. ويضيف: “بعد أشهر من نشر المقاطع، تجاوزت مشاهداتي مئات الآلاف، واليوم أتلقى عروضاً دعائية من شركات أدوات صناعية”.

من جانبها، تقول دعاء، وهي شابة تعمل في الخياطة في حيّ الرحمانية الشعبي في مدينة البصرة: “بدأت الخياطة بطرق بسيطة في منزلي، وكنت أصوّر تصاميمي وأنشرها على إنستغرام لتسويقها. بمرور الوقت، تحوّلت صفحتي إلى منصة لتعليم الفتيات الخياطة وإعادة تدوير الملابس بأسلوب عصري، واليوم أعمل مع مؤسسات محلية لدعم ريادة الأعمال النسائية”.

هكذا، تحولت المنصات الرقمية إلى مساحة جديدة للتعبير والتمكين، خصوصاً في بيئات تفتقر إلى فرص العمل المستقرة أو المنابر العامة.

الشهرة الرقمية مكانةً اجتماعيةً جديدةً في العراق

يرى الخبير في الإعلام الرقمي والأستاذ الجامعي، الدكتور إبراهيم الخالدي، أن هذه الظاهرة تعبّر عن تحوّل اجتماعي لافت، إذ “باتت الشخصية التي تحصل على عدد كبير من المتابعين تجذب اهتمام الشركات والعلامات التجارية، وربما وجدت فرص عمل صغيرة من المنصات نفسها”.

ويضيف الخالدي: “في البيئات حيث معدلات البطالة مرتفعة، تصبح الشهرة الرقمية مساراً بديلاً لتحقيق الاعتراف أو تغيير الواقع. فاليوم يمكن لشاب من حي شعبي الوصول إلى جمهور واسع بكاميرا هاتف وإنترنت فقط، وهو ما كان يتطلب سابقاً موارد ضخمة أو وسائط إعلامية”. ويشير الخالدي إلى أن “هناك دوافع أخرى غير اقتصادية، مثل البحث عن التقدير الاجتماعي أو إعادة تشكيل الهوية خارج الإطار التقليدي للمكانة الموروثة، ما يجعل المكانة الرقمية بديلاً أو مكمّلاً للمكانة المادية والاجتماعية في المجتمع العراقي”.

أما الباحثة الاجتماعية نهلة حسين، فتلفت إلى أن تحوّل بعض شباب الأحياء الشعبية إلى مؤثرين رقميين “يحمل آثاراً متعددة، إيجابية وسلبية في آن واحد”. تقول حسين إن الشهرة الرقمية اليوم “أعادت تعريف مفهوم المكانة الاجتماعية، إذ أصبح شاب من حي فقير يملك مئات الآلاف من المتابعين يُنظر إليه على أنه نجم ومؤثر، وهذا ينعكس شعوراً بالفخر لدى أسرته ومجتمعه المحلي”. وتضيف: “من الجانب الإيجابي، أسهمت هذه الظاهرة في تحفيز روح ريادة الأعمال الرقمية، بعدما باتت الفرصة مرتبطة بالمهارة والفكرة لا بالموارد المادية، ما شجع الكثير من الشباب على الابتكار والإنتاج”. لكن حسين تحذر في الوقت نفسه من أن “تغيّر القيم والمقاييس الاجتماعية دفع بعض المستخدمين إلى تقديم محتوى متهور أو منافٍ للعادات، ما أثار جدلاً واسعاً وأدى إلى صدور أحكام قضائية ضد عدد من مستخدمي تيك توك في العراق، بتهم تتعلق بنشر محتوى مخالف للأعراف وسلوكيات المجتمع”. وتلفت إلى أن “الاعتماد على عدد المتابعين مقياساً للمكانة يولّد شعوراً بالضغط النفسي والتفاوت بين الشباب، إذ يجد البعض أنفسهم في سباق دائم للحفاظ على الجمهور، وهو أمر لا يتاح للجميع بذات الإمكانات أو الحظ”.

بالنسبة إلى أستاذ علم الاجتماع، أمير علي هادي، فإن التحدي الأهم اليوم يكمن في “تحقيق التوازن بين القيم الاجتماعية والتطور التكنولوجي”. يقول: “على المجتمع العراقي أن يدرك أن التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة فعالة إذا استخدمها الأفراد بحكمة. التحدي هو الحفاظ على التقاليد الاجتماعية في أثناء الاستفادة من فوائد التقدم الرقمي”. ويضيف: “شبكات التواصل عززت الانفتاح على أفكار جديدة، لكنها أسهمت أيضاً في تراجع بعض العلاقات التقليدية وانتشار الأخبار المغلوطة. لذلك، من الضروري تبني استخدام ذكي لهذه المنصات، مع الحفاظ على الروابط الإنسانية التي ميّزت المجتمع العراقي لعقود طويلة”.

لائحة لتنظيم المحتوى

في مواجهة هذه التحولات، وضعت هيئة الإعلام والاتصالات لائحة جديدة لتنظيم عمل المشاهير وصنّاع المحتوى الرقمي. ووفق المتحدث باسم الهيئة، حيدر نجم العلاق، فإن “اللائحة تهدف إلى وضع إطار تنظيمي يحدد المعايير والإجراءات الخاصة بالمحتوى الرقمي والإعلانات على المنصات الاجتماعية”. وأوضح العلاق لـ”العربي الجديد” أن “اللائحة تشمل جميع المدونين والمؤثرين والشخصيات العامة ذات المتابعة الواسعة، بهدف ضمان الشفافية والمصداقية، وحماية المجتمع من الممارسات غير المهنية في الإعلان والترويج”. كذلك تتيح للأفراد المتضررين “حق تقديم الشكاوى إلى الهيئة أو الجهات القضائية المختصة”، وفقاً للعلاق الذي أضاف أن الهدف “ضبط الإعلانات المضللة والمحتوى غير الأخلاقي، وحماية حقوق المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة”.

يذكر أن الهيئة فرضت هذا العام رسوماً على المؤثرين في العراق بحسب أعداد متابعيهم. ووفقاً لتصريحات العلاق حينها، فإن “الهيئة حددت رسوماً سنوية لتسجيل المؤثرين في العراق وفق أعداد متابعيهم، على النحو الآتي: أكثر من خمسة ملايين متابع: مليون دينار عراقي سنوياً (نحو 700 دولار)، ومن ثلاثة إلى خمسة ملايين متابع: 850 ألف دينار عراقي سنوياً (500 دولار)، ومن مليون إلى ثلاثة ملايين متابع: 650 ألف دينار عراقي سنوياً (400 دولار)، ومن 500 ألف إلى مليون متابع: 450 ألف دينار عراقي سنوياً (300 دولار)، ومن 100 ألف إلى 500 ألف متابع: بين 250 ألفاً و350 ألف دينار عراقي سنوياً (220 دولاراً)”.

من جهته، يؤكد رئيس مجلس مفوضي هيئة الإعلام والاتصالات، محمود الربيعي، أن العراق “بحاجة إلى إرساء ثقافة رقمية جديدة تحمل مشروع الارتقاء بثقافة التحول الرقمي للفرد والمجتمع، للمساهمة في بناء اقتصاد رقمي مستدام”. ويقول الربيعي إن “ابتعاد جيل الأجداد عن الثورة الصناعية جعل الجيل الجديد يدفع ضريبتها، وعلينا مواكبة الثورة الرقمية وتوحيد جهود مؤسسات الدولة مع القطاع الخاص لرسم مسار صحيح وتجنّب أخطاء من سبقنا”. ويشير الربيعي إلى أن “مجال الرقمنة والابتكار يشهد ثورة حقيقية في العراق، عبر دمج التكنولوجيا في جميع الخدمات والقطاعات، والاستفادة منها لخلق فرص عمل جديدة وتعزيز الاقتصاد الوطني”.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى