الصحافة الإيرانية: هل تقترب العلاقات الإيرانية الأوروبية من مرحلة الانفراج؟

تدل الخطوات الأوروبية الأخيرة على أن برلين وفيينا، رغم الخلافات السياسية، أدركتا على المستوى العملي أن استمرار العزلة وقطع الروابط لا يخدم المصالح المشتركة.

ميدل ايست نيوز: في إحدى مدوناته، كتب جون ستاينبيك الكاتب الأمريكي البارز في القرن العشرين، إن الصراع والتوتر يمثلان فشل الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً. وربما تنطبق هذه المقولة اليوم أكثر من أي وقت مضى على مسار العلاقات المتقلبة بين إيران وكل من ألمانيا والنمسا. فقد كانت الدبلوماسية بين طهران والعواصم الأوروبية دوماً ساحة يتقاطع فيها البعد الاقتصادي والجيوسياسي مع خلافات أيديولوجية عميقة.

وقالت صحيفة دنياي اقتصاد في تقرير، إنه في الأشهر الأخيرة، وبعد تفعيل “آلية الزناد” من قبل الدول الأوروبية الثلاث (ألمانيا، بريطانيا، وفرنسا)، وما تبعها من عودة عقوبات الأمم المتحدة، شهدت العلاقات بين إيران وهذه الدول توتراً واسعاً. غير أن مؤشرات حذرة، لكن مهمة، بدأت تلوح في الأفق، ما يعكس إمكانية عودة الهدوء وغلبة الدبلوماسية على التوتر، في مسار نحو إعادة التطبيع.

ظهور المؤشرات

أولى بوادر الانفراج ظهرت من فيينا، في العلاقات بين طهران والنمسا. فبعد الحرب التي استمرت 12 يوماً وما تلاها من هجمات أمريكية وإسرائيلية ضد إيران، كانت السفارة النمساوية في طهران قد قلصت نشاطها وأوقفت إصدار التأشيرات. لكن في 31 أكتوبر، أصدرت السفارة بياناً أعلنت فيه أنه من المتوقع استئناف خدماتها اعتباراً من أواخر نوفمبر 2025. ويُعد هذا الإعلان خبراً ساراً لآلاف الإيرانيين من الطلاب والتجار والمرضى الذين يحتاجون إلى تأشيرات من دولة عضو في منطقة “شنغن” للسفر إلى أوروبا. ويمكن اعتبار خطوة النمسا هذه دليلاً على رغبة فيينا السياسية بالابتعاد عن حدة التوترات الدبلوماسية، وإشارة إلى إعطاء الأولوية للتبادلات الإنسانية والثقافية والاقتصادية.

من جانب آخر، أفادت وسائل الإعلام بعودة الرحلات الجوية المباشرة بين إيران وعدد من الدول الأوروبية. وكان من أبرز تداعيات التوتر الأخير توقف الرحلات الجوية الأوروبية المباشرة بين طهران والعواصم الأوروبية، الأمر الذي تسبب في مشكلات واسعة للمجتمع الإيراني المقيم في أوروبا ولرجال الأعمال. إلا أن هذا الجليد بدأ يذوب تدريجياً.

فبعد انقطاع استمر عدة أشهر، حطّت طائرة تابعة لشركة الطيران النمساوية “أوسترين”، إحدى شركات مجموعة “لوفتهانزا”، في مطار الإمام الخميني الدولي فجر 3 نوفمبر، في أول رحلة مباشرة من فيينا إلى طهران. وانطلقت الرحلة في الساعة 2:30 فجراً، معلنة استئناف الخط الجوي فيينا–طهران–فيينا رسمياً. وفي أعقاب ذلك، أعلنت شركة “لوفتهانزا” الألمانية، إحدى أبرز شركات الطيران الأوروبية، أنها ستستأنف الرحلات المباشرة بين طهران وفرانكفورت خلال الشهرين المقبلين.

وأكد رامين كاشف آذر، مدير مطار الإمام الخميني الدولي، الخبر واعتبره خطوة مهمة نحو تطوير التعاون الدولي وتعزيز الروابط التجارية والسياحية بين إيران وأوروبا. ونقلت وكالة “فارس” عنه قوله إن عودة “لوفتهانزا” إلى مطار طهران ستخلق فرصاً جديدة، وتمكّن الإيرانيين من الوصول إلى مزيد من الوجهات. وأضاف: “نحن نركّز بقوة على هذا الموضوع ونأمل أن يتحقق قريباً”. تدل هذه الخطوات على أن برلين وفيينا، رغم الخلافات السياسية، أدركتا على المستوى العملي أن استمرار العزلة وقطع الروابط لا يخدم المصالح المشتركة. كما أن عودة هذه الشركات لا تمثل خبراً ساراً للمسافرين فحسب، بل أيضاً مؤشراً اقتصادياً مهماً، إذ غالباً ما تترافق قرارات الشركات الكبرى بالعودة إلى سوق معينة مع إشارات سياسية إيجابية غير معلنة.

إعادة فتح القنصلية الإيرانية في بون

تُعد العلاقات مع ألمانيا الأعمق والأوسع من نوعها بالنسبة لإيران على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وقدّر المكتب الفدرالي للإحصاء في ألمانيا عام 2024 أن هناك نحو 319 ألف شخص من أصول إيرانية يقيمون في البلاد. ومع ذلك، لم تخلُ العلاقات بين البلدين خلال السنوات الماضية من التوتر.

بلغت هذه التوترات ذروتها عقب تنفيذ حكم الإعدام بحق جمشيد شارمهد، المواطن الإيراني-الألماني، إذ أصدرت وزارة الخارجية الألمانية في 1 نوفمبر 2024 قراراً بإغلاق القنصليات الإيرانية في المدن الألمانية كافة باستثناء برلين. وكانت هذه القنصليات، في فرانكفورت وهامبورغ وميونيخ، تقدم خدمات قنصلية للإيرانيين المقيمين في البلاد. وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي في مؤتمر صحفي يوم 3 نوفمبر إن القرار الألماني تسبب بمشكلات كبيرة للإيرانيين المقيمين هناك، مضيفاً أن إيران حاولت التخفيف من هذه الصعوبات عبر حلول مختلفة، منها زيادة نشاط القسم القنصلي في السفارة الإيرانية ببرلين.

وأدى قرار الحكومة الألمانية إلى استدعاء القائم بالأعمال الألماني إلى وزارة الخارجية الإيرانية وتقديم احتجاج رسمي، ووصفت طهران القرار بأنه غير منطقي وغير مبرر، لأنه يحرم الإيرانيين المقيمين في ألمانيا من خدماتهم القنصلية الأساسية. وقالت الخارجية الإيرانية في بيان حينها إن القنصليات الإيرانية في فرانكفورت وهامبورغ وميونيخ تؤدي وظائف حيوية لدعم المواطنين الإيرانيين، وإن قرار إغلاقها يمثل انتهاكاً لحقوقهم الأساسية.

إلا أن الجهود الدبلوماسية وراء الكواليس أسفرت عن نتائج ملموسة، إذ تقرر استئناف عمل القنصلية الإيرانية في مدينة بون. وأعلن بقائي في مؤتمره الصحفي يوم الاثنين 3 نوفمبر أن “إيران حصلت على التراخيص اللازمة لإعادة تفعيل القنصلية في بون، بينما لا تزال المباحثات مستمرة بشأن بقية القضايا مع الجانب الألماني”. وأضاف أن السفير الإيراني في فيينا بدأ بالفعل في تنفيذ الإجراءات اللازمة لتفعيل الأقسام المختلفة، بما فيها الخدمات القنصلية وإصدار التأشيرات.

ظل التوترات

لا شك أن إعادة فتح القنصلية في بون تمثل إنجازاً دبلوماسياً مهماً لإيران، حتى وإن لم تعوض بالكامل الخدمات التي كانت تقدمها القنصليات الثلاث السابقة. غير أن استئناف النشاط القنصلي في بلد يضم مئات الآلاف من المواطنين الإيرانيين يعد خطوة عملية نحو تخفيف حدة التوتر. ومع ذلك، تشير بعض الحوادث الأخيرة، مثل مداهمة السلطات الألمانية للمركز الإسلامي في هامبورغ وإصدار أمر رسمي بإغلاقه، إلى أن الخلافات لا تزال قائمة.

ومع ذلك، فإن التطورات الأخيرة توحي بإمكانية تحقيق تقدم ملموس في العلاقات، على الأقل في المرحلة الراهنة، مع تنامي الأمل في استئناف المسار الدبلوماسي. ولا يمكن إغفال أن مستقبل الملف النووي الإيراني سيظل عاملاً مؤثراً في وتيرة هذه العلاقات.

إن نظرة شاملة إلى التحولات الأخيرة في العلاقات بين إيران وألمانيا والنمسا ترسم صورة لعلاقة معقدة ومتعددة الأوجه. فبينما هددت الأزمات المتكررة بقطع الجسور بالكامل، أظهرت الأشهر الأخيرة مؤشرات على عودة تدريجية إلى الواقعية السياسية. واستئناف الرحلات الجوية والحصول على ترخيص لإعادة فتح القنصلية الإيرانية في بون يعكسان انتصار الدبلوماسية والعقلانية في السياسة الخارجية، ويؤكدان أن المثابرة في الحوار قادرة على تجنب الانزلاق نحو توترات مدمرة.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر + 8 =

زر الذهاب إلى الأعلى