دخول الاستثمارات الأمريكية إلى العراق.. تحول اقتصادي أم سياسي؟
تحوّل لافت يطرأ على العلاقة بين بغداد وواشنطن، مع دخول كبريات الشركات الأمريكية إلى السوق العراقية بعقود ضخمة في مجالات الطاقة والبنية التحتية.
ميدل ايست نيوز: تحوّل لافت يطرأ على العلاقة بين بغداد وواشنطن، مع دخول كبريات الشركات الأمريكية إلى السوق العراقية بعقود ضخمة في مجالات الطاقة والبنية التحتية، إذ تظهر تغير نمطها من الأمني العسكري إلى الاقتصادي، والتي تأتي وفق مراقبين، في إطار استراتيجية أمريكية لإعادة التمركز الاقتصادي في الشرق الأوسط ومنافسة النفوذين الصيني والروسي، لكن آخرين يرون فيها ورقة سياسية يوظفها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لكسب الدعم الأمريكي وتأمين ولاية ثانية.
ويقول مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، غازي فيصل، إنّ “الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد انسحابها من العراق عام 2011 وعودتها عبر التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في 2014، حققت إنجازات مهمة، لكنها اليوم تعود من بوابة مختلفة، تتمثل في الاستثمار والطاقة الكهربائية والبنية التحتية والخدمات، عبر مشاريع استراتيجية متعددة”.
ويضيف فيصل، أن “دخول الشركات الأمريكية العملاقة مثل إكسون موبيل، وشيفرون، وجنرال إلكتريك، وغيرها، في عقود طويلة الأمد، يعكس تحولاً جوهرياً في طبيعة العلاقة بين بغداد وواشنطن، إذ انتقلت من علاقات ذات طابع عسكري ودفاعي إلى علاقات اقتصادية أوسع وأكثر رسوخا”.
من الأمن إلى الاقتصاد
ويشير فيصل إلى أن “الولايات المتحدة لم تعد تضع الحرب على الإرهاب في العراق أو سوريا ضمن أولوياتها، بل تركّز حالياً على توسيع نفوذها الاقتصادي والتكنولوجي في مواجهة النفوذين الصيني والإيراني، وكذلك الروسي، الذين يشكلون تحدياً مباشراً للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط والخليج”.
ويؤكد مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، أن “هذه العودة الاقتصادية تُعد جزءاً من استراتيجية أمريكية لإزاحة النفوذ المنافس عبر اتفاقيات طويلة الأمد تجعل العلاقة مع العراق مؤسسية واستراتيجية، لا ظرفية أو عسكرية محدودة”.
ويخلص فيصل إلى أن “التحول الاقتصادي سيقود إلى إعادة تشكيل التوازن السياسي داخل المشهد العراقي، إذ ستحتل واشنطن موقعاً محورياً في السياسة الخارجية العراقية إلى جانب علاقاتها الإقليمية، مع بقاء مساحة للتعاون المحدود مع الصين وروسيا، بما يضمن توازناً في علاقات العراق الدولية والإقليمية”.
وتصاعدت الأحاديث مؤخراً عن تعاقدات واستثمارات لكبريات الشركات الأمريكية في العراق، وهو ما تحدث به مرارا رئيس الوزراء محمد شياع السوداني سواء في مقابلاته الإعلامية أو تجمعاته الجماهيرية لدعم ائتلافه في الانتخابات المقرر إجراؤها الأسبوع المقبل.
وفي هذا السياق، قال السوداني في مقابلة مع رويترز، أمس الأول: “هناك دخول واضح ومكثف ونوعي للشركات الأمريكية إلى العراق”، مشيراً إلى أكبر اتفاق على الإطلاق مع جنرال إلكتريك (جي.إي) من أجل الحصول على 24 ألف ميجاوات من الكهرباء بما يعادل القدرة الإجمالية الحالية للبلاد، مضيفا، أن “شركات أمريكية وأوروبية أبدت اهتماماً بخطة لبناء رصيف ثابت لاستيراد وتصدير الغاز قبالة ساحل ميناء الفاو الكبير وهو ما سيكون أول مشروع هناك”.
وتسعى الولايات المتحدة إلى وضع موطئ قدم اقتصادي في الشرق الأوسط والعراق، خصوصا مع وجود التنافس الصيني والروسي في المنطقة، وهو ما دفعها لتعيين مبعوث خاص للعراق بوجه تجاري وهو رجل الأعمال مارك سافايا.
العراق سوق مهم
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي، أنّ “هذا التطور يمثل مؤشراً واضحاً على المنهجية التي تتبعها الإدارة الأمريكية الحالية في تعزيز نشاط الشركات الأمريكية داخل الولايات المتحدة وخارجها، إذ تعتمد في الداخل على فرض الرسوم الجمركية لحماية الصناعة الوطنية، وفي الخارج على توظيف أدواتها الدبلوماسية لدعم توسع الشركات الأمريكية في أسواق جديدة”.
ويضيف أنّ “العراق يشكل إحدى أهم هذه الأسواق، لا سيما في قطاع الطاقة، حيث تسعى واشنطن من خلال دخول شركاتها النفطية الكبرى إلى تثبيت وجود اقتصادي طويل الأمد يوازي تأثيرها السياسي والأمني السابق”، مشيراً إلى أنّ “هذا الانفتاح الاقتصادي يُعد تحوّلاً نوعياً في طبيعة العلاقة بين بغداد وواشنطن، إذ تنتقل من إطار أمني–سياسي بحت إلى علاقة استراتيجية ذات بعد اقتصادي متشابك”.
ويتابع الهاشمي أنّ “هذا التحول يتطلب مقاربات جديدة لإدارة العلاقة بين البلدين، تقوم على مبدأ المصالح المتبادلة وضمان سيادة العراق في قراراته الاقتصادية، مع الاستفادة من الخبرة والتكنولوجيا الأمريكية في مجالات الطاقة والبنية التحتية”، مؤكداً أنّ “إشراك الشركات الأمريكية في المشاريع الكبرى قد يسهم في إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي، لكن نجاح هذا المسار مشروط بوجود بيئة استثمارية مستقرة وإرادة سياسية قادرة على إدارة التوازن بين الشركاء الدوليين”.
ومنذ نيسان أبريل استقبلت بغداد أكبر وفد تجاري أمريكي ضمن جهود تعزيز العلاقات الاقتصادية الثنائية واستكشاف مجالات التعاون والاستثمار، وقال مستشار رئيس الوزراء للشؤون الفنية محمد الدراجي آنذاك، إن “زيارة الوفد التجاري الأمريكي إلى العراق تمثل نقطة تحول مهمة في العلاقات الاقتصادية بين بغداد وواشنطن”، مشيرًا إلى أن “الوفد يُعد الأكبر من نوعه من حيث عدد الشركات، مما يعكس الرغبة الأمريكية الجادة في التعاون الاقتصادي وزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين”.
ويشير تقرير مناخ الاستثمار في العراق لعام 2024 الصادر عن الخارجية الأمريكية إلى أن البلاد “ما تزال بيئة عالية المخاطر للاستثمار الأجنبي بسبب البيروقراطية، والفساد، وضعف تنفيذ القوانين التجارية، وانعدام الشفافية في العقود”.
وتُعد شركة إكسون موبيل (ExxonMobil) النموذج الأبرز لتقلّب علاقة المستثمر الأمريكي بالعراق. ففي عام 2009 دخلت الشركة بقوة من خلال عقد تطوير حقل غرب القرنة/1، لكنها واجهت خلافات مع وزارة النفط حول شروط التعاقد وآليات استرداد النفقات، لتعلن انسحابها رسميا عام 2023.
لكن في الشهر الماضي، كشفت تقارير بلومبيرغ ورويترز عن عودة الشركة إلى التفاوض مع الحكومة العراقية من بوابة حقل مجنون في البصرة، حيث وقّع العراق رسميا، اتفاقا مع إكسون موبيل الأمريكية في عودة للشركة الأميركية إلى العراق بعد انقطاع دام عامين. وحسب رويترز، يشمل الاتفاق تطوير البنية التحتية لتصدير النفط العراقي في الجنوب، إضافة لاتفاق لتقاسم أرباح تجارة النفط الخام والمنتجات المكررة.
كسب الود الأمريكي
لكن الكاتب والمحلل السياسي نزار حيدر، يعتقد من جهته، أن “دخول الشركات الأمريكية إلى العراق يمثل أحد المحاور الأساسية في إستراتيجية السوداني لكسب ودّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تُبنى رؤيته السياسية والاقتصادية على مبدأ الاستثمار ثم الاستثمار ثم الاستثمار، سواء كان ذلك عبر استثمارات أجنبية داخل الولايات المتحدة كما حدث في صفقات ترامب مع زعماء قطر والإمارات والسعودية، أو عبر استثمارات أمريكية مباشرة في الخارج”.
ويضيف حيدر أن “السوداني قدّم لإدارة ترامب عرضاً واسعاً يتضمن فرصاً استثمارية للشركات الأمريكية في العراق تُقدّر بنحو 150 مليار دولار، تشمل قطاعات النفط والغاز والطرق والجسور ومجالات أخرى متعددة”، مشيراً إلى أن “مبعوث ترامب الجديد إلى العراق، مارك سافايا، تمّ تعيينه تحديداً لمتابعة هذا الملف والإشراف على هذه الاستثمارات المحتملة”.
ويتابع قائلاً، إنّ “نجاح هذه المشاريع سيعتمد على وجود رؤية اقتصادية عراقية واضحة تستثمر هذه الفرص لخدمة البلاد فعلاً، لا أن تتحول إلى ورقة سياسية يستخدمها السوداني لضمان ولاية ثانية”، لافتاً إلى أنّ “الواقع الحالي يشير إلى أن أي شركة أمريكية لم تباشر بعد بتنفيذ مشاريع فعلية، وكل ما تم التوصل إليه حتى الآن لا يتعدى مذكرات تفاهم أولية غير ملزمة”.
ويكشف المحلل السياسي المقيم في واشنطن، أن “الولايات المتحدة والشركات الأمريكية وقّعت هذه التفاهمات بشكل مبدئي في انتظار ما ستسفر عنه الانتخابات المقبلة، إذ أن استمرار السوداني في منصبه لولاية ثانية سيعني المضي قُدماً في تنفيذ الاتفاقات، أما في حال تغيّرت الحكومة فسيبدأ الملف من نقطة الصفر”، مضيفاً أنّ “تلك الشركات تسعى من خلال هذه الخطوات إلى حجز مواقعها في السوق العراقية لما بعد الانتخابات، وهو ما يعني ضمناً أن الشركات الأمريكية قد سبقت نظيراتها الإيرانية والروسية إلى تأمين فرصها المستقبلية في العراق”.
ويختتم حيدر، كلامه بالقول، إنّ “هذه التحركات الأمريكية تأتي في وقت تشتد فيه العقوبات الغربية على روسيا وإيران، ما أدى إلى انسحاب عدد من الشركات الروسية من مشاريع خارجية عديدة، بينها مشاريع في العراق، الأمر الذي منح الشركات الأمريكية مساحة أوسع للنفاذ إلى السوق العراقية، ويحوّل المشهد الاقتصادي إلى ساحة تنافس جيوسياسي بين واشنطن ومنافسيها التقليديين”.
أبرز التعاقدات
بالإضافة إلى شركة إكسون موبيل، أعلنت جنرال إلكتريك GE Vernova الأمريكية وغيرها من الشّركات إبرام عقد مع العراق لتوليد نحو 24,000 ميغاواط من الكهرباء، ضمن اتفاقية استراتيجية مع واشنطن، بالإضافة إلى مشروع طاقة شمسية.
وفي تموز يوليو 2025، وقّعت Schlumberger الأمريكية مع العراق لتطوير إنتاج حقل عكاز في الأنبار، حيث تستهدف زيادة الإنتاج إلى نحو 100 مليون قدم مكعب قياسي يومياً، من هدف نهائي يصل إلى 400 مليون قدم.
وفي آب أغسطس 2025، عقدت شيفرون الأمريكية اتفاقاً مبدئياً مع بغداد لتطوير حقول استكشاف في ذي قار، مع هدف أولي لإنتاج حوالي 600 ألف برميل يومياً خلال سبع سنوات.



