الصحافة الإيرانية: السياسة الخارجية وعالم العلاقات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين

كلا الجانبين يدرك أهمية ضبط التوتر، ويحاول أن يظهر القوة من دون أن يدفع نحو تصعيد عسكري مباشر. لكن هل يمكن لهذا النوع من الإدارة الحذرة للعلاقة أن يصمد طويلاً ويضمن استقراراً دائماً؟

ميدل ايست نيوز: شكّل لقاء الرئيسين الصيني والأمريكي في 30 أكتوبر 2025 على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ في كوريا الجنوبية تحولاً مهماً في مسار العلاقات بين البلدين. خلال الاجتماع الذي استمر نحو ساعتين، توصل دونالد ترامب وشي جين بينغ إلى تفاهمات حول خفض بعض الرسوم الجمركية، وبيع تقنيات متقدمة محددة، وتوسيع التجارة في السلع الزراعية، إلى جانب التعاون في مكافحة انتشار بعض المواد المخدرة الصناعية. وشملت هذه التفاهمات جوانب فنية لكنها بالغة الأهمية، فيما اعتُبر خفض الرسوم الجمركية ولو بشكل محدود خطوة لاحتواء تصاعد الحرب التجارية بين الجانبين.

وقال الخبير في الشؤون السياسية، محمد كاظم سجاد بور، في مقال نشره موقع دبلوماسي إيراني، إن هذا اللقاء الذي جاء بعد ست سنوات من انقطاع اللقاءات بين الزعيمين، مثّل نقطة تهدئة مؤقتة في التوتر المتصاعد خلال الأشهر الأخيرة. وقد منح الأمريكيون، وترامب شخصياً، اللقاء زخماً إعلامياً كبيراً، بينما بدت البيانات الصينية الرسمية أكثر تحفظاً وهدوءاً. ومع ذلك، أعاد هذا اللقاء طرح سؤال قديم لا يزال يشغل الباحثين والمختصين في العلاقات الدولية منذ أكثر من عقدين: كيف يمكن فهم العلاقة بين الصين والولايات المتحدة وتحليلها بدقة؟

للإجابة عن هذا السؤال، يمكن التوقف عند ثلاثة محاور أساسية: أولاً، الحقائق المتعلقة بهذه العلاقة؛ ثانياً، السرديات والرؤى المختلفة التي تشكلت حولها؛ وثالثاً، طبيعة المسار الذي يُدار من خلاله هذا التفاعل بين الطرفين.

فيما يتعلق بالحقائق، لا شك أن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة هي الأهم على مستوى العلاقات الثنائية في العالم. فلا توجد علاقة أخرى تماثلها من حيث تأثيرها في الاقتصاد والسياسة والأمن الدوليين. فإذا تحولت هذه العلاقة إلى مواجهة مفتوحة واشتد التوتر العسكري، فإن تداعياتها ستنعكس بعمق على الاقتصاد والسياسة العالميين، أما إذا أُديرت الخلافات بعقلانية وتوسعت مجالات التعاون، فسيُعاد رسم ملامح المشاريع الاستراتيجية الكبرى في العالم.

تكمن أهمية هذه العلاقة في المسار الذي بدأ قبل عقود مع الصعود الاقتصادي الصيني. فبعد ثلاثة عقود من الثورة الصينية، انتقلت بكين تدريجياً من نظرتها القديمة إلى الولايات المتحدة بوصفها “نمرًا من ورق”، كما وصفها ماو تسي تونغ، إلى نهجٍ براغماتي سعى إلى الاستفادة من القدرات الاقتصادية الأمريكية لتحقيق التنمية. ومنذ اللقاء التاريخي بين ماو والرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون قبل نحو خمسة عقود، أصبحت التنمية هي الهدف المركزي والهاجس الاستراتيجي للصين، فيما أُبعدت المشاريع الأيديولوجية السابقة إلى الهامش.

والمفارقة أن الحزب الشيوعي الصيني، رغم انخراطه في اقتصاد السوق، لم يفقد سلطته بل عزز قبضته على الحكم. ويبرز في هذا المسار عاملان لافتان: أولاً، الرهان الأمريكي على أن الانفتاح الاقتصادي سيؤدي إلى تحول سياسي داخل الصين، وهو ما لم يحدث. وثانياً، أن الصينيين اختاروا مقاومة النفوذ الأمريكي عبر طريق التنمية الاقتصادية، مؤمنين بأن القوة الحقيقية تكمن في النمو لا في المواجهة المباشرة.

وقد أثمرت هذه السياسات عن صعود الصين إلى مرتبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتحولها من دولة نامية إلى قوة صناعية متقدمة بمعايير عالمية. وفي الوقت نفسه، توسعت العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة، حتى أصبحت بينهما درجة عالية من “الاعتماد المتبادل”. فحجم التجارة بين البلدين يبلغ نحو 700 مليار دولار سنوياً، وتمتلك الصين ما يقارب تريليون دولار من سندات الخزانة الأمريكية، ما يجعلها فاعلاً استراتيجياً في الاقتصاد الأمريكي نفسه.

إلا أن واشنطن أدركت أن الصين لم تصبح ليبرالية أو ديمقراطية كما توقعت، بل تحولت إلى قوة كبرى تُعيد تشكيل النظام الدولي وتؤثر مباشرة في مكانة الولايات المتحدة. ومنذ نحو عقدين، بدأت داخل أمريكا سرديات جديدة تعتبر الصين “تحدياً بنيوياً” يجب احتواؤه.

تتعدد هذه السرديات في الولايات المتحدة: فإحداها تتبنى موقفاً متشدداً يرى أن سياسة التعاون الاقتصادي السابقة كانت خطأ استراتيجياً، وأن الصين تمثل خطراً يهدد القيم والمصالح الأمريكية، ما يستدعي العمل على “تغيير النظام” في بكين. وهناك رؤية أخرى أقل تطرفاً تقول إن تغيير النظام غير ممكن ولا مفيد، لكن يجب تقليص الاعتماد المتبادل عبر ما يُعرف بـ”فك الارتباط” بين الاقتصادين.

ويرى بعض الخبراء أن هذا الفصل الكامل غير واقعي نظراً لتشابك المصالح الاقتصادية، لذا يقترحون حصر فك الارتباط في القطاعات الاستراتيجية الحساسة فقط. في المقابل، هناك تيار ثالث يرى أن مصلحة الولايات المتحدة تكمن في التعاون لا في الصدام أو العزلة الاقتصادية، ويمثل هذا التيار العديد من الشركات الكبرى وأصحاب المصالح الاقتصادية في الداخل الأمريكي.

أما داخل الصين، فالرؤى تجاه الولايات المتحدة متباينة بدورها. فبعض التيارات يرى ضرورة الاستعداد لمواجهة عسكرية محتملة، بينما يدعو آخرون إلى مواصلة التعاون والتوازن بين المنافسة والتفاهم. ومع ذلك، فإن ما يجمع الطرفين رغم كل الخلافات هو الإصرار على “إدارة العلاقة” وتجنب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.

كلا الجانبين يدرك أهمية ضبط التوتر، ويحاول أن يظهر القوة من دون أن يدفع نحو تصعيد عسكري مباشر. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في ختام هذا المشهد هو: هل يمكن لهذا النوع من الإدارة الحذرة للعلاقة أن يصمد طويلاً ويضمن استقراراً دائماً؟

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر + عشرة =

زر الذهاب إلى الأعلى