خطوات تشكيل حكومة العراق التاسعة: استحقاقات دستورية وسياسية

في خطوة غير مسبوقة على مستوى سرعة الحسم الزمني لعقبة تشكيل "الكتلة الكبرى" داخل برلمان العراق الجديد أعلنت قوى تحالف "الإطار التنسيقي" عن عودة التئام التحالف مجدداً، بالعنوان والكتل السياسية نفسها.

ميدل ايست نيوز: مع إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، مساء أول من أمس الاثنين، النتائج الرسمية والنهائية للانتخابات التشريعية التي أجريت في البلاد يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، تبدأ فعلياً المرحلة الأكثر تعقيداً في المسار السياسي ما بعد الانتخابات، وهي مرحلة تشكيل الحكومة الجديدة في العراق وما يرافقها من بناء تحالفات ونسج تفاهمات بشأن توزيع المناصب، وبناء توازنات سياسية ترسم ملامح السلطة في بغداد خلال السنوات الأربع المقبلة.

ولم يُظهر إعلان النتائج النهائية من قبل المفوضية ليل الاثنين أي تغييرات جوهرية في النتائج الأولية التي كانت أعلنتها سابقاً. وبحسب أرقامها، تصدرت قائمة “ائتلاف الإعمار والتنمية” بقيادة رئيس الحكومة محمد شياع السوداني بحصولها على 46 مقعداً في البرلمان الجديد المؤلف من 329 مقعداً، وحل حزب “تقدم” بزعامة محمد الحلبوسي ثانياً بـ36 مقعداً، و”ائتلاف دولة القانون” بزعامة نوري المالكي ثالثاً (29 مقعداً)، يليه “صادقون” بزعامة قيس الخزعلي والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني.

وفي خطوة غير مسبوقة على مستوى سرعة الحسم الزمني لعقبة تشكيل “الكتلة الكبرى” داخل برلمان العراق الجديد، التي خولها الدستور تشكيل الحكومة، أعلنت قوى تحالف “الإطار التنسيقي” عن عودة التئام التحالف مجدداً، بالعنوان والكتل السياسية نفسها، والتوقيع على كونها الكتلة الكبرى التي ستشكل الحكومة المقبلة. وبحسب بيان صدر عن الاجتماع الذي حضره السوداني، فإنه ناقش بـ”إسهاب المعايير المعتمدة لاختيار رئيس الوزراء، إضافة إلى طبيعة البرنامج الحكومي المطلوب بما ينسجم مع التحديات السياسية والاقتصادية والخدمية التي يواجهها العراق، وبما يحقق تطلعات المواطنين في الإصلاح والاستقرار والتنمية”.

ويتألف “الإطار التنسيقي” من مجموعة القوى والأحزاب العربية الشيعية في العراق، باستثناء التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، وهي كل من ائتلاف “دولة القانون” بزعامة نوري المالكي، و”بدر” بزعامة هادي العامري، و”صادقون” بزعامة قيس الخزعلي، وتيار “الحكمة” بزعامة السيد عمار الحكيم وائتلاف “النصر” بقيادة حيدر العبادي، “والإعمار والتنمية” بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي يتحالف مع كتلة “السند” بزعامة أحمد الأسدي، وكذلك حزب “الفضيلة الإسلامي”، و”العقد” بزعامة فالح الفياض، والمجلس الأعلى بزعامة همام حمودي، و”حقوق” بزعامة حسين مؤنس القيادي في كتائب حزب الله، و”خدمات” بزعامة شبل الزيدي، “والأساس” بزعامة محسن المندلاوي. وتنضوي تلك القوى ضمن “الإطار التنسيقي” بوصفه مظلةً سياسيةً واسعةً تضم الأحزاب التي تشكّل الكتلة الأكبر داخل البيت السياسي الشيعي منذ عام 2021. وعقب إعلان المفوضية النتائج النهائية للانتخابات، تبدأ مرحلة مصادقة المحكمة الاتحادية العليا على هذه النتائج، وهي النقطة التي تمثل الإشارة الدستورية الرسمية إلى انطلاق العدّ التنازلي لتشكيل الحكومة.

ومنذ الغزو الأميركي للعراق في 2003، تناوبت على الحكم ثماني حكومات، أولها حكومة إياد علاوي في عام 2004 واستمرت نحو عام واحد، ثم حكومة إبراهيم الجعفري عام 2005 واستمرت عاماً كاملاً، تلتها حكومتا نوري المالكي الأولى والثانية بين 2006 و2014، ثم حكومة حيدر العبادي التي سلّمت السلطة إلى حكومة عادل عبد المهدي الذي استقال بعد نحو عام من تسلمه الحكومة تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية عام 2019، لتأتي حكومة مصطفى الكاظمي وتستمر نحو ثلاث سنوات.

وفي عام 2022، اختير محمد شياع السوداني رئيساً للوزراء بعد أزمة سياسية وأمنية خانقة ضربت العراق إثر تصدر “التيار الصدري” بزعامة مقتدى الصدر نتائج انتخابات عام 2021، ورفض القوى الشيعية مشروع حكومة الأغلبية الانتخابية الذي رفعه الصدر، وإصرار خصومه على حكومة توافقية.

بدء الحوارات في العراق

من الناحية القانونية، ينص الدستور في العراق على أن رئيس الجمهورية يُنتخب خلال مدة لا تتجاوز 30 يوماً من انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد، ليقوم بدوره بتكليف مرشح الكتلة النيابية الأكبر بتشكيل الحكومة خلال مدة 30 يوماً من تاريخ التكليف. وبذلك، تبدأ الخطوات الدستورية لتأليف الحكومة ضمن إطار زمني محدد، وإن كانت التجارب السياسية السابقة أظهرت أن المهل القانونية قد تتحول إلى مساحات تفاوض طويلة بسبب تشابك المصالح بين القوى السياسية.

أما سياسياً، فتشير مجريات المشهد السياسي العراقي إلى أن الحوارات بين الكتل قد بدأت فعلياً منذ يومين، وهو ما أكده اجتماع “الإطار التنسيقي” الذي قرّر الالتئام مجدداً باسمه نفسه وكتله نفسها. ووقّع “الإطار” في اجتماع فاجأ الجميع، مساء الاثنين، على اعتباره الكتلة الأكبر في البرلمان وبمجموع قوى مقاعد تجاوز 170 مقعداً، ما يعادل أكثر من نصف مقاعد البرلمان البالغة 329، وهو ما سيمنحه لاحقاً أريحية كبيرة في تمرير القوانين والمشاريع والتصويت على المناصب الرئيسية في البلاد بأغلبية النصف زائد واحد. وحضر الاجتماع 12 قيادياً يمثلون قادة “الإطار”، أبرزهم رئيس الحكومة محمد شياع السوداني ونوري المالكي وزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم وزعيم منظمة بدر هادي العامري وزعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي وحيدر العبادي.

وتشمل هذه الحوارات، التي انطلقت فعلياً، الملفات الأساسية المتعلقة بتوزيع الرئاسات الثلاث في العراق (رئاسات البرلمان والجمهورية والحكومة)، التي غالباً ما تُحسم ضمن تفاهمات واتفاقات سياسية شاملة تجمع القوى الفاعلة على أساس التوازن المكوناتي والسياسي.

وبين المعادلة الدستورية التي تفرض سقفاً زمنياً محدداً والتعقيدات السياسية التي تميل إلى الإطالة والأخذ والرد، تبدو المرحلة المقبلة بمثابة اختبار جديد لقدرة القوى العراقية على التفاهم والتنازل من أجل إنتاج حكومة تمثل توافقاً وطنياً وتحقق الاستقرار بعد سباق انتخابي محتدم.

“الإطار التنسيقي” يحافظ على تماسكه

ووفقاً لبيان “الإطار التنسيقي” الذي صدر في وقت متأخر ليل الاثنين – الثلاثاء، فإنه أكد “أهمية حسم الاستحقاقات الانتخابية ضمن المدد الدستورية وبما ينسجم مع السياقات القانونية المعتمدة”، مضيفاً أنه “في هذا الصدد، وقّع الإطار على اعتباره الكتلة النيابية الأكبر، التي تتألف من جميع كياناته وفق الإجراءات الدستورية، وقيامه بالمضيّ بترشيح رئيس الوزراء للمرحلة المقبلة”. وقرّر التحالف بناءً على ذلك “تشكيل لجنتين قياديتين: الأولى تُعنى بمناقشة الاستحقاقات الوطنية للمرحلة المقبلة ووضع رؤية موحدة لمتطلبات إدارة الدولة، والثانية تتولى مقابلة المرشحين لمنصب رئيس الوزراء وفق معايير مهنية ووطنية”.

ويحمل البيان إعلاناً رسمياً بتخطي المخاوف السياسية والشعبية، من إمكانية رفض رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الالتئام ضمن تحالف واحد مع باقي القوى الشيعية، ومحاولة الحصول على ولاية ثانية، من خلال عقد تفاهمات مع القوى السياسية السنية والكردية، أو ذهاب قوى ومكونات سياسية شيعية في تفتيت ائتلاف الإعمار والتنمية الذي يرأسه السوداني وسحب نواب فائزين منه، وبذلك إضعافه بالأرقام داخل البرلمان.

من جهته، أكد السوداني، أمس الثلاثاء، في كلمة له خلال أعمال المنتدى السادس للسلام والأمن في الشرق الأوسط في محافظة دهوك، أن “العراق لديه علاقات جيدة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولن يكون ساحة نفوذ لأي دولة”. وفي ما خصّ نتائج الانتخابات، شدّد على أن “الولاية الثانية (له) ليست طموحاً شخصياً، بل استعداد لتحمل المسؤولية، حيث سيباشر الإطار التنسيقي الحوار مع الكتل السياسية لتشكيل الرئاسات”، وفق ما نقلت وكالة الأنباء العراقية (واع).

وقابل مراقبون سياسيون خطوة “الإطار التنسيقي”، أول من أمس، بارتياح، واعتبر الخبير السياسي العراقي علي الطيب أنها “دليل نضوج سياسي”، مبيناً أن “التوافق الحالي بهذه السرعة على حسم الموضوع مهم، ودليل نضوج سياسي، كون الجميع بات مدركاً أن التأخير أو الدخول في أي أزمة لن يصبّ في صالح العملية السياسية، وسيفتح باب تدخل دولي إقليمي”. وتوقع الطيب أن يكون محمد شياع السوداني ضمن الأسماء المرشحة للحكومة، لكن حظوظه ليست مرتفعة”، وفق رأيه.

الناشط السياسي مجاشع التميمي شرح أن العملية السياسية ستنتقل بعد إعلان النتائج النهائية إلى المرحلة الدستورية الثانية، وهي تصديق المحكمة الاتحادية العليا على النتائج، وهذه الخطوة تمنح النتيجة الصفة القانونية النهائية، لافتاً إلى أنه بعد المصادقة، يدعو رئيس الجمهورية البرلمان الجديد إلى الانعقاد خلال 15 يوماً وفق المادة (54) من الدستور”. وأضاف التميمي أنه “في الجلسة الأولى، يجرى انتخاب رئيس البرلمان ونائبيه بالأغلبية المطلقة، ثم يُفتح باب الترشيح لاختيار رئيس جديد للعراق خلال 30 يوماً من أول انعقاد للمجلس. وبعد انتخابه، يُكلَّف رئيس العراق مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل الحكومة خلال 30 يوماً من تاريخ التكليف، ليعرض تشكيلته الوزارية وبرنامجه الحكومي لنيل ثقة البرلمان”.

وتابع التميمي: “سياسياً، تبدأ الحوارات عادة منذ إعلان النتائج الأولية، لكنها تتكثف بعد المصادقة النهائية، إذ تتشكل وفود تفاوضية من الكتل الفائزة لترتيب التحالفات وتوزيع المناصب وفق مبدأ التوازن بين المكونات، وغالباً يبرم اتفاق سياسي شامل يحدّد حصص رئاسة البرلمان للجبهة السنية، ورئاسة الجمهورية للأكراد، ورئاسة الوزراء للكتلة الشيعية الأكبر”. وختم بأنه “بناء على الأوزان الانتخابية الحالية، يتوقع أن تستغرق عملية التفاهم وتسمية الرئاسات من شهرين إلى ثلاثة أشهر قبل إعلان الحكومة رسمياً”.

من جهته، قال الخبير في الشؤون الاستراتيجية علي ناصر إن “أبواب الأحزاب والكتل بدأت تفتح لرسم التوافقات السياسية وهناك بوادر جيدة إلى أن الإطار التنسيقي متوافق على وحدته وعدم تفككه، كما أن توافقات أخرى يمكن لمسها بين المكونات الثانية السنية والشيعية”. وأعرب عن اعتقاده أن الحكومة المقبلة ستعلن عن تشكيلتها الوزارية بشكل مختلف هذه المرة، بسبب الضغوط الشعبية والخارجية في ظل كل المتغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط”.

ويترقب الشارع العراقي حكومته الجديدة بكثير من الآمال على حلّ مشاكل عديدة في البلاد، أبرزها الفقر والبطالة والخدمات، لكن تحديات كبيرة أخرى تنتظر هذه الحكومة بعيداً عن الجانب الاقتصادي، وهي ملف الفصائل المسلحة والنازحين وسحب الحشود المسلحة من مراكز المدن، وإعادة السكان الممنوعين إليها، مثل جرف الصخر والعوجة والعويسات، جنوب وشمال وغرب بغداد، إلى جانب الخلافات الحالية بين إقليم كردستان وبغداد، وملفات حقوقية ترفعها القوى العربية السنية.

أما الباحث في الشأن السياسي من إقليم كردستان ياسين عزيز، فرأى أن “الحوارات بدأت قبل الانتخابات، لكن بعد ظهور النتائج، أصبحت الصورة أكثر وضوحاً أمام الكتل التي تحاول أن تصل إلى اتفاق لتقاسم المناصب وتشكيل الحكومة”.
وبيّن عزيز أن “العرف السياسي في العراق جرى أن تعبّر الرئاسات الثلاث عن المحاصصة بين المكونات، ولذلك فإن مسألة اختيار اسم رئيس للجمهورية بين الأحزاب الكردية يبدو أيضاً معقداً بسبب الخلافات بين الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني)، وهو الأمر نفسه بين الكتل السياسية داخل المكون السني لاختيار مرشح لرئاسة مجلس النواب”.

أما أطراف “الإطار التنسيقي”، بحسب عزيز، فقد “بدأوا فعلياً إجراء مشاورات بشأن آلية اختيار رئيس الحكومة، لكن كتل المكون السني لم تدخل بعد في حوار جدي لاختيار مرشحهم لرئاسة البرلمان، وليست الأحزاب الكردية في وضع جيّد للمضي بإجراء مشاورات جدية لاختيار مرشحهم لرئاسة الجمهورية وسط خلافات كبيرة بين الحزبيين الرئيسيين اللذين لم يتفقا بعد على آلية تقاسم المناصب في الاقليم وتشكيل حكومة الإقليم الجديدة بعد أكثر من عام على انتخابات برلمان إقليم كردستان”.

المسار الدستوري

دستورياً، يشرح الخبير في الدستور العراقي المحامي علي التميمي، أنه “بعد إعلان النتائج والبت أمام القضاء بالطعون المقدمة، وإعلان الأسماء الفائزة الـ329، يقوم مجلس مفوضية الانتخابات برفع هذه الأسماء إلى المحكمة الاتحادية العليا للمصادقة عليها، وهي المحطة الأخيرة القانونية”. وتابع أن “انتخاب رئيس البرلمان ونائبيه يجرى بالاقتراع السري المباشر وبالأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء، يعني النصف زائد واحد”. ولفت إلى أن “رئيس البرلمان الجديد يفتح باب الترشيح لرئاسة الجمهورية خلال ثلاثة أيام، أما الانتخاب، فيجرى بأغلبية ثلثي الأعضاء، وبأغلبية الأصوات في جولة ثانية عند الإخفاق في الحصول على أغلبية الثلثين وفق الدستور”. وتابع: “يُكلف رئيس الجمهورية المنتخب مرشح الكتلة الأكثر عدداً لتشكيل الحكومة ووضع البرنامج الوزاري خلال 15 يوماً من انتخابه، وأمام رئيس مجلس الوزراء المكلف 30 يوماً لإنجاز المهمة، ويستوجب تصويت البرلمان بالأغلبية المطلقة أي نصف العدد الكلي زائد واحد، وعند إخفاقه، يكلف رئيس الجمهورية مرشحاً آخر بالمدد نفسها وفق المادة 76 من الدستور”.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 + ستة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى