الصحافة الإيرانية: الأمن من أجل الاقتصاد.. الهيكل الجديد للعلاقات بين الرياض وواشنطن

تحولت زيارة بن سلمان إلى واشنطن إلى محطة مفصلية. فقرار ترامب المثير للجدل ببيع مقاتلات F-35 للسعودية لا يقتصر على صفقة محدودة، بل يعيد رسم صورة التفوق الجوي في المنطقة خلال العقد المقبل.

ميدل ايست نيوز: ترددت أصداء مأدبة العشاء التي أقامها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لولي العهد السعودي في ظل حالة عدم اليقين الإقليمي والدولي. هناك التقت مفاهيم الأمن والاستثمار، ورُسمت معالم توازن جديد في العلاقات الممتدة منذ عقود بين الرياض وواشنطن. محمد بن سلمان دخل البيت الأبيض وفي جعبته ملفات أساسية، أبرزها توقيع اتفاق دفاعي غير حزبي، والحصول على مقاتلات الجيل الخامس، وإعادة تشكيل العلاقات بين البلدين في بيئة دولية تتجه نحو التعددية القطبية مع منطق الاقتصاد السياسي الدولي. وفي هذا الإطار يشكل عامل الأمن ركناً أساسياً لمشروع «رؤية 2030». من خلال هذا الترتيب يسعى ولي العهد إلى هدفين محوريين، اقتصادي وأمني، يتداخلان مع الحسابات الجيوسياسية، ويؤدي تحقيقهما إلى ضمانات ملموسة تعمّق العلاقة مع الإدارة الجمهورية وتخفف من الملفات العالقة بين الجانبين، سواء في النظام الإقليمي أو على الساحة الدولية.

المحور العام «الأمن»

وقال الأستاذ كامران كرمي، باحث في شؤون الخليج، في مقال نشرها موقع دبلوماسي إيراني، إنه في ظل التحولات الدولية الناشئة والتنافس بين الصين والولايات المتحدة، باتت مقاربة الأمن الإقليمي للسعودية مسألة حاسمة في حسابات الرياض. الاقتصاد ما بعد النفط يعتمد بشكل جوهري على الاستقرار السياسي، وهذا الاستقرار لن يتحقق من دون أمن مستدام. السعودية تريد التزامات أوضح وأكثر موثوقية من واشنطن. فالهجمات على منشآت أرامكو في 2019، والهجمات بالطائرات المسيرة على الإمارات في 2022، والهجوم الإسرائيلي على الدوحة في 2025 عزز قناعة الرياض بأن الوجود العسكري الأميركي في الخليج وحده لا يوفر حماية كافية، وأن الولايات المتحدة ينبغي أن تقدم ضمانات أكثر صلابة من خلال توقيع اتفاق دفاعي، ومنح السعودية صفة «حليف غير عضو في الناتو»، وتلبية طلب شراء مقاتلات F-35. لكن التوصل إلى اتفاق دفاعي رسمي يحتاج موافقة مجلس الشيوخ، وهو أمر يبدو بعيد المنال حالياً، لذلك تتجه الرياض نحو اتفاق دفاعي ثنائي يوفر إطاراً مستقراً للتعاون العسكري لا يرتبط بتغير الإدارات الأميركية. في المقابل، لا ترغب واشنطن في إعطاء التزامات ملزمة في منطقة تتسم بسيولة الأزمات، وقد تجر ترامب إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط، لكنها ترى في تقديم بعض الضمانات خطوة تساعد على موازنة الاستثمارات السعودية الضخمة في الاقتصاد الأميركي. ومع ذلك، فإن منح السعودية وقطر صفة «حليف رئيسي من خارج الناتو» لا يُلزم الولايات المتحدة بدخول الحرب، بل يسهل التعاون الدفاعي دون التزامات عسكرية مباشرة.

تقدم باسم «الاقتصاد»

التركيز على الأمن ليس هدفاً بحد ذاته، بل شرط أساسي للنهضة الاقتصادية. فالسعودية تدرك أن التحول إلى اقتصاد متقدم يتطلب جذب علامات تجارية كبرى وشركات التكنولوجيا والطاقة والصناعات المتقدمة والطب والترفيه. الاقتصاد ليس ملفاً جانبياً في هذه الزيارة، بل هو محور بناء صيغة جديدة للعلاقات الأميركية السعودية. الرياض ترى نفسها على أعتاب تحول تاريخي، ولتحقيقه تحتاج إلى التكنولوجيا والأمن والاستثمارات المستقرة. كما باتت أكثر طموحاً وجرأة ومطالبة مما كانت عليه، وتتوقع من واشنطن أن تكون شريكاً استراتيجياً في هذا التحول، لا مجرد حليف أمني تقليدي. رؤية 2030 واستراتيجية التحول الاقتصادي تؤثر بشكل مباشر في علاقات السعودية مع الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى. المملكة تعمل على تقليص اعتمادها على النفط والتحول نحو اقتصاد قائم على التكنولوجيا والصناعة والابتكار والخدمات المتقدمة. وفي هذا السياق يشكل التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة أولوية قصوى. السعودية تحتاج إلى وصول مستقر للتكنولوجيا والشركات الأميركية كي تطور الموارد البشرية ومراكز البيانات. غير أن هذا المسار واجه قيوداً أميركية على التصدير في السنوات الأخيرة. أما الولايات المتحدة فترى في هذا التعاون مصلحة حيوية لها؛ فهو يمنع انجراف السعودية نحو الصين في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ويحول دون اعتماد الرياض المتزايد على تقنيات شرق آسيا، ويحافظ على دور الدولار والنظام المصرفي الأميركي في الاستثمارات السعودية، كما يضمن ألا تُعاد صياغة اقتصاد المنطقة بشكل يبتعد عن النفوذ الأميركي.

تفاعل الأمن والاقتصاد مع الجغرافيا السياسية

التوازن بين هدفي الأمن والاقتصاد يتأثر بالتحولات الجيوسياسية في المنطقة والعالم. ويمكن قراءة زيارة بن سلمان من ثلاثة زوايا جيوسياسية. الأولى هي إعادة تعريف الأمن الإقليمي عبر اتفاق جديد بين واشنطن والرياض يسمح للأخيرة بالقيام بدور قوة إقليمية مستقرة. الثانية هي خلق توازن في مواجهة التهديدات المستجدة، بما فيها إيران، ليس عبر الحرب، بل من خلال مزيج من الردع والدبلوماسية وإعادة تأهيل بؤر الأزمات في اليمن وسوريا ولبنان والعراق. الثالثة هي استخدام ملف فلسطين لإعادة هندسة النظام السياسي في الشرق الأوسط، بحيث تلعب الرياض دور اللاعب الموجه، وتكون واشنطن شريكها الرئيسي في أي مسار للتطبيع مع إسرائيل. هذا الطرح كان قائماً منذ عهد إدارة بايدن، بناء على «صفقة كبرى» تقوم على اتفاق دفاعي أميركي سعودي مقابل تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب مع حزمة اقتصادية وتنازلات لصالح الفلسطينيين. لكن حرب غزة وتداعياتها الإنسانية رفعت الكلفة السياسية للتطبيع بالنسبة للسعودية. وقد أكدت الرياض خلال العامين الماضيين أن التطبيع لن يتقدم إلا إذا انسحبت إسرائيل من غزة وتعهدت بالسير نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهي شروط غير ممكنة في ظل حكومة نتنياهو الحالية.

الآفاق

تحولت زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن إلى محطة مفصلية. فقرار ترامب المثير للجدل ببيع مقاتلات F-35 للسعودية لا يقتصر على صفقة محدودة، بل يعيد رسم صورة التفوق الجوي في المنطقة خلال العقد المقبل. كثير من صناع القرار في الولايات المتحدة وإسرائيل يعتبرون المحافظة على التفوق النوعي مسألة أساسية، خاصة في منطقة قد تتغير فيها موازين التحالفات في سنوات قليلة. هذه المقاتلات ليست مجرد سلاح، بل مصدر قوة أمنية وسياسية واستراتيجية، ليس على مستوى دولة واحدة فحسب، بل على مستوى التوازن الإقليمي الأوسع. ومن هذه الزاوية، فإن حصول السعودية عليها ضمن الجدول الزمني الذي تريده، رغم الشكوك الكثيرة، سيكون مكسباً كبيراً لولي العهد له دلالات مؤثرة على مستقبل المنطقة.

ختاماً، زيارة بن سلمان ولقاءه ترامب قد تفضيان إلى توقيع اتفاق دفاعي ثنائي غير تحالفي لكنه ملزم بشكل ما. بالنسبة للرياض، هذا الاتفاق ضروري لمواجهة التهديدات التقليدية والجديدة، وتوفير الاستقرار اللازم لمشاريعها الاستثمارية العملاقة حتى 2030. وفي هذا السياق جاءت رسالة الرياض لواشنطن خلال مأدبة العشاء: من دون ضمانات أمنية ملموسة، لن يتحقق النمو الاقتصادي الذي يريده ترامب.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى