من “المقاومة” إلى “المنافسة”.. ما الذي يضمن مكانة إيران على الطاولة الإقليمية المتغيرة؟
الشرق الأوسط يشهد تحولاً استراتيجياً يعيد تشكيل موازين القوة التي حكمت المنطقة لعقود. وفي قلب هذا المشهد المعقّد تقف إيران، بوصفها أحد أبرز الفاعلين في غرب آسيا، أمام مفترق طرق مصيري.

ميدل ايست نيوز: الشرق الأوسط يشهد تحولاً استراتيجياً يعيد تشكيل موازين القوة التي حكمت المنطقة لعقود. وفي قلب هذا المشهد المعقّد تقف إيران، بوصفها أحد أبرز الفاعلين في غرب آسيا، أمام مفترق طرق مصيري. فبينما تتصاعد الضغوط الغربية، ولا سيما بعد حرب الأيام الاثني عشر، في محاولة لإخضاع طهران سياسياً واقتصادياً، يفتح تغيّر مواقف دول عربية وصعود قوى إقليمية جديدة نافذة تاريخية للدبلوماسية الإيرانية وفرصة لإعادة ترسيم موقعها الإقليمي.
وحسب تقرير صحيفة “توسعه إيراني” الصادرة في طهران، في هذا المنعطف الحاسم، تجد إيران نفسها أمام ثلاثة مسارات صعبة: الانصياع لشروط واشنطن القصوى، مواصلة نهج المقاومة بما يتضمنه من أكلاف اقتصادية باهظة، أو ابتكار مبادرة استراتيجية جديدة تحفظ المصالح الوطنية ضمن هندسة إقليمية آخذة في التشكل.
تفكيك استراتيجية الضغط الغربي
اعتمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها، بقيادة إدارة دونالد ترامب، استراتيجية حصار متعددة الأوجه تهدف إلى «حسم» موقع إيران في المنطقة. الهدف المركزي يتمثل في صياغة معادلة إقليمية جديدة تُضمن فيها أمن إسرائيل، ويُكبح فيها النفوذ الإيراني المتنامي. وقد جُنّدت لهذه الغاية أدوات الضغط كافة: من الوكالات الدولية مثل مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مروراً بحصار سياسي وإقليمي، وصولاً إلى ضغوط أوروبية منسّقة. وتشترط واشنطن لأي اتفاق جديد مع طهران تقييد برنامجها الصاروخي ووقف تخصيب اليورانيوم، وهي شروط تخدم مباشرة أمن إسرائيل والتوازن الذي تسعى الولايات المتحدة إلى فرضه.
وفي هذا السياق، اتجهت واشنطن نحو تعزيز ثقل السعودية الإقليمي، لاسيما عبر المضي في صفقة تزويد الرياض بمقاتلات F-35 المتطورة، وهو تحول كبير في السياسات الأميركية، بعدما كانت هذه الخطوة مجمدة حفاظاً على التفوّق العسكري النوعي لإسرائيل. الرسالة واضحة: الولايات المتحدة تريد أن تجعل من السعودية ركيزة توازن إقليمي في مواجهة إيران—ومن دون السماح بسيطرة مطلقة لإسرائيل—ما يدفع طهران لإعادة النظر في عقيدتها الدفاعية واقتصادها المقاوم.
محور المقاومة في طوق استراتيجي
العقيدة الردعية الإيرانية القائمة على التسليح والتمويل الواسع لحلفاء غير حكوميين تواجه اليوم تحديات وضربات استراتيجية متتالية. فواشنطن وتل أبيب تتحركان بوضوح لنزع سلاح أطراف محور المقاومة. وسقوط نظام الأسد في ديسمبر حرم إيران من أقرب حليف عربي رسمي ومن ممر بري آمن نحو حزب الله. وفي لبنان، يتعرض حزب الله لضغوط داخلية ودولية غير مسبوقة لإجباره على التخلي عن سلاحه. وفي العراق، تواجه الفصائل الموالية لطهران تضييقاً حكومياً متزايداً لوقف عملياتها.
أما الحرب الأخيرة (حرب الأيام الـ12)، فقد ألحق القصف الجوي الإسرائيلي أضراراً بالغة ببنى إيرانية حيوية، واستهدف التفوق التكنولوجي الإيراني في المجال النووي—ذلك التفوق الذي كانت طهران تعتبره حجر الزاوية في استراتيجيتها الردعية. ومع ذلك، اتجهت إيران إلى إعادة تموضع عسكري، مركّزةً على تعزيز محور المقاومة وجذب دول جديدة إلى خط المواجهة مع إسرائيل، من باكستان إلى دول الخليج. وقد شكّل الهجوم الإسرائيلي على الدوحة جرس إنذار للعواصم العربية، إلا أن المراقبين يرون أن الرياض تقود توجهاً دبلوماسياً لاحتواء التهديد، وهو ما ظهر جلياً خلال زيارة محمد بن سلمان الأخيرة إلى واشنطن.
المقاومة وغموض النووي
رغم تحقيق «المقاومة» مكاسب استراتيجية—كإضعاف الهيمنة الإسرائيلية والوصول إلى مستوى «الغموض النووي» بعد هجمات يونيو—فإن كلفتها الاقتصادية على إيران كانت هائلة. العقوبات أثقلت الاقتصاد وفاقمت السخط الشعبي. ورغم ذلك، لا تزال الخطابات الرسمية، القديمة والحديثة، تتمسك بنهج عدم «الاستسلام» أمام الغرب، وتتعامل مع الدعوات إلى تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية بتجاهل واضح.
في المقابل، يدرك السياسيون البراغماتيون—ومنهم الرئيس مسعود بزشكيان—أن استجلاب مساعدات دولية ووقف التدهور الاقتصادي يمران عبر استئناف التفاوض مع فريق ترامب. هؤلاء يرون أن رفع العقوبات لن يتحقق إلا من خلال مقاربة واقعية مع الولايات المتحدة. ومن ثم، تجد إيران نفسها أمام معادلة دقيقة بين الحفاظ على مبدأ المقاومة وبين الحاجة الملحة لفتح الاقتصاد. ويبرز هنا بوضوح أن الهجمات الإسرائيلية المتكررة زادت من ضبابية البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يمنح طهران هامشاً استراتيجياً في مواجهة الضغوط القصوى.
الهندسة الإقليمية الجديدة ودور السعودية
أحداث ما بعد حرب الأيام الـ12 وصعود قوى جديدة قلبت المشهد بالكامل. المصافحة الحارة بين محمد بن سلمان ودونالد ترامب بدت إعلاناً عن «قوة ناشئة» لم تعد تُعرّف بالمدافع والصواريخ، بل باستثمارات تريليونية. تصريح بن سلمان—«لا نريد أن يخسر أحد كي نربح نحن؛ نريد أن يربح الجميع»—جاء إيذاناً بنهاية لعبة «مجموع الصفر» في المنطقة، موجهاً رسالة واضحة إلى طهران: مقعد إيران في الطاولة الكبرى محفوظ… بشرط أن تأتي بثوب جديد، وتتحول من المقاومة إلى المنافسة.
دول الخليج، وخاصة السعودية، ترى في الاستقرار الإقليمي شرطاً لتحقيق برامج اقتصادية كبرى مثل رؤية 2030. وهذا التوجه يدفعها إلى تبريد المواجهة مع إيران. ومع توظيف رؤوس أموال ضخمة لإعادة إعمار دول كلبنان وسوريا، تتشكّل هندسة إقليمية تضيق على إيران من جهة، لكنها تفتح لها منافذ جديدة من جهة أخرى، خصوصاً بعد تراجع هيمنة إسرائيل وتزايد القوة الدفاعية لحلفاء واشنطن في الخليج.
إشارات دبلوماسية
بحثاً عن تخفيف الضغوط ومنع تكرار الهجمات، بدأت طهران بتحركات دبلوماسية لافتة. تصريحات مسؤوليها بشأن تبادل الرسائل مع واشنطن، وحديث الرئيس بزشكيان عن مراسلات مع محمد بن سلمان، وزيارات عباس عراقجي، كلها مؤشرات إلى رغبة إيرانية في تفادي التصعيد والانخراط في تسوية إذا ضُمنت حقوقها. كما أن انتقال طهران من قنوات الوساطة التقليدية—مثل عُمان وقطر—إلى رسائل شبه مباشرة، يعكس فهماً إيرانياً لنمط تفكير ترامب ورغبته في التفاوض المباشر والتعامل الملوكي.
هذه المقاربة تُعد قراراً استراتيجياً يسعى إلى إغراء ترامب بإبرام اتفاق نووي جديد. وقد أعلن الرئيس الأميركي بالفعل استعداده للجلوس مع طهران، قائلاً: «إيران تريد اتفاقاً… نحن نتحدث معهم وبدأنا العملية.» ومع ذلك، تشدد طهران على أن استعدادها للحوار لا يعني التراجع عن خطوطها الحمراء: حق التخصيب، والبرنامج الصاروخي. بالنسبة لها، المفاوضات وسيلة لكسر الحصار وضمان الحقوق، لا قبولاً بالشروط الأميركية القصوى.
العقد الأربعة للمفاوضات
يرى الباحثون أن استئناف المفاوضات يتطلب تجاوز أربع عقبات رئيسية:
- وقف حلقة «الإكراه والرد» عبر ضمانات أميركية بعدم تكرار الهجمات العسكرية.
- الاتفاق على إطار التفاوض: واشنطن تريد اتفاقاً شاملاً بـ«تخصيب صفري»، بينما تفضّل طهران خطوات تدريجية.
- تسوية خلاف مستويات التخصيب والاحتياطي النووي عبر تراجع واشنطن عن مطلب «الصفر»، وتقديم إيران تنازلات بشأن المخزون.
- كبح تدخل إسرائيل ومعارضة الكونغرس، وهما عاملان عطّلا مسار التفاوض سابقاً.
القرار الكبير: دمج المقاومة بالمنافسة الاقتصادية
تقف إيران اليوم أمام قرار تاريخي: فالمضي في المقاومة المحضة يعني استمرار العزلة الاقتصادية وتزايد مخاطر المواجهة، بينما الانصياع لشروط واشنطن يصطدم بجوهر العقيدة الأمنية للنظام. ويبقى الطريق الثالث—الذي يراه عدد متزايد من المفكرين—هو الخيار الوحيد: دمج قوة المقاومة مع استراتيجية اقتصادية جريئة وواقعية.
هذا الطريق لا يلغي المقاومة، بل يوظف أوراق القوة الجيوسياسية الإيرانية في بناء دور اقتصادي محوري، وتحويل البلاد إلى عقدة ترانزيت إقليمية، وتعزيز التعاون مع الشرق، إلى جانب تنشيط مسارات خفض التوتر مع الجوار—وخاصة السعودية—لتحييد «دكتاتورية الدولار» وتخفيف أثر العقوبات. ويبدو أن الهندسة الإقليمية الجديدة، التي تقودها دول الخليج بروح اقتصادية عملية، تحمل رسالة واضحة لإيران: عصر التحالفات الصلبة والعداوات الأبدية انتهى. وإن مستقبل «الشرق الأوسط الجديد» سيتحدد بما ستختاره طهران عند هذا المنعطف التاريخي.


