الاستثمار في حروب الظِّل: دلالات التصعيد العسكري مع إسرائيل في الساحة السورية

إذ يُعوِّل النظام السوري على تعزيز قوته وتشغيل اقتصاده المتراجع، فإنه سيُفضِّل في المدى القريب تجنُّب التصعيد سواء مع الإسرائيليين أو حتى مع الأمريكيين.

ميدل ايست نيوز: أعلنت جماعة فلسطينية تُدعى “لواء القدس” مسؤوليتها عن إطلاق صواريخ على مواقع للجيش الإسرائيلي في الجولان المحتل في 8 أبريل 2023، رداً على الانتهاكات الإسرائيلية ضد المصلين في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان.

ردَّت إسرائيل بقصف مدفعي مدعوم بطائرة مسيرة، استهدف راجمات الصواريخ، بحسب ما ذكر بيان للجيش الإسرائيلي، تلاه قصف مدفعي من المواقع السورية بحسب ما ذكرت حسابات سورية في مواقع التواصل الاجتماعي.

وبعد ساعات، استهدفت طائرات إسرائيلية حربية وأخرى مسيّرة مجمعاً عسكرياً تابعاً للفرقة الرابعة التي يقودها اللواء ماهر الأسد شقيق الرئيس بشار الأسد، بالإضافة إلى رادار ومواقع مدفعية تابعة للجيش السوري.

تناقش هذه الورقة دلالات هذا التصعيد في الساحة السورية في سياق الصراع القائم بين أطراف ما يُدعى “محور المقاومة” وإسرائيل، وبخاصة في ضوء الاتفاق السعودي-الإيراني.

تصاعُد حرب الظل الإيرانية-الإسرائيلية في سورية

مع تصاعد وتيرة القصف الإسرائيلي وكثافته على المواقع العسكرية الإيرانية في سورية منذ فبراير الماضي، طوّر الحرس الثوري الإيراني مقاربته لاتفاق بيجين (الاتفاق الإيراني-السعودي لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما الموقَّع برعاية صينية في 10 مارس). انتقلت تلك القيادات من موقف المشكك في جدوى الاتفاق الإيراني-السعودي، إلى العمل على استثماره من أجل التفرُّغ للمواجهة مع إسرائيل والاستعداد لزعزعة الوجود الأمريكي في شرق سورية.

وجاء أول استثمار للحرس الثوري الإيراني للواقع الجديد بعد اتفاق بيجين، عبر محاولة تعديل قواعد الاشتباك مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن شرقي سورية، وذلك باستهداف مواقعه في محافظة الحسكة في 23 مارس. لكن الرد الأمريكي القوي الذي استهدف مواقع الميلشيات التابعة لإيران وقواعد تضم مستشارين إيرانيين، المترافق مع جنوح المسؤولين الأمريكيين إلى الهدوء وعدم التصعيد، من جهة، وعدم وجود رغبة حقيقية لدى المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، وكبار مستشاريه للأمن القومي في تصعيد التوتر مع الأمريكيين، من جهة أخرى، أديا إلى عودة الطرفين إلى قواعد الاشتباك السابقة بينهما التي تحدد محافظة دير الزور ساحةً لتبادل الرسائل بينهما، على الأقل في الوقت الحالي.

وبالترافق مع هذه المساعي، عمل قادة ما يسمى “محور المقاومة” في المنطقة على إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بضرورة تعزيز استراتيجية “ردع” إسرائيل. في هذا السياق، استغل الإيرانيون الانتهاكات الإسرائيلية ضد المصلين في المسجد الأقصى مع بداية شهر رمضان من أجل دفع أجندتهم، والزج بالجولان ضمن استراتيجية الردع المرتكزة على ما يسمى “وحدة الساحات”، وذلك بقيام مليشيات مرتبطة بـ “فيلق القدس” بشن هجمات صاروخية منسقة من غزة وجنوب لبنان وسورية.

وعمل الإيرانيون على استغلال الزلزال المدمر في شمال سورية (6 فبراير) من أجل تسريع نشر منظومات الدفاع الجوي الخاصة بهم في سورية. في السياق نفسه، زار قاآني سورية مرتين في فبراير ومارس، وجال في مناطق شرق وشمال سورية، ونتيجةً لذلك، عادت حرب الظل الإيرانية-الإسرائيلية إلى الواجهة بعد الهدنة الإنسانية المؤقتة التي فرضها وقوع الزلزال.

على إثر هذه التطورات، كثَّف الجيش الإسرائيلي ضرباته اعتباراً من 19 فبراير على مواقع الجيش السوري وحلفائه الإيرانيين. وشملت قائمة المواقع التي قُصفَت مختلف المحافظات السورية، وأسفرت عن وقوع عشرات القتلى والجرحى بين السوريين والإيرانيين.

ودفع إطلاق الصواريخ على الجولان الإسرائيليين إلى الردّ بقوة، فقد أعلنوا استهداف مقر قيادة اللواء ماهر الأسد في الفرقة الرابعة، ومقرات أخرى لها على طريق دمشق-بيروت. ومع عودة الهدوء إلى منطقة الجولان، حذَّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحكومة السورية من أن هذه العمليات ما هي إلا بداية.

واعتبرت وسائل إعلام إسرائيلية أن النظام السوري يمارس “لعبة خطرة” من خلال عدم كبح جماح المليشيات المسلحة المدعومة من إيران، وحذرته من مخاطر “ادعاء السيطرة على الأراضي السورية، والسماح [في الوقت نفسه] بشن هجمات [منها]” على إسرائيل.

تؤكد تصريحات نتنياهو وجود رغبة عميقة لدى الإسرائيليين في استمرار سيطرة دمشق على المنطقة العازلة المتاخمة للجولان المحتل، ومن المرجح أن يكون مسؤولو القاعدة الروسية في حميميم (اللاذقية) قد قادوا جهوداً بين إسرائيل والحكومة السورية لاستعادة الهدوء في الجولان.

موقف دمشق المُتحفِّظ

لطالما سعى النظام الحاكم في سورية إلى التأكُّد من إمساكه ورقة الجولان لضمان دوره في عملية السلام العربية-الإسرائيلية وموقعه الإقليمي، وهو لم يُفرِّط بهذه الورقة بالرغم من تراجع قوته خلال سنوات الأزمة. لذلك، جاء موقفه متحفظاً تجاه حادثة إطلاق الصواريخ باتجاه الجولان المحتل، فهو لم يُعلِّق على الحادثة، وربما يكون له دور في تراجُع “لواء القدس” عن تبنّيه الهجوم.

ولاحقاً أطاح القائد العام للواء محمد السعيد نائبه عدنان محمد السيد وفصله من صفوف اللواء بشكل نهائي، من دون توضيح الأسباب، في خطوة فُسِّرت على نطاق واسع بحالة الإرباك التي سادت اللواء بعد تبنيه إطلاق الصواريخ ونفيه لاحقاً.

من جهة أخرى، يؤشر موقف النظام إلى حرص الرئيس السوري بشار الأسد على استمرار الزخم القائم لمسارات التطبيع مع دول الخليج وبقية الدول العربية، وعدم الانجرار وراء سياسة الحرس الثوري التصعيدية. وفي مؤشر على هذا الحرص، سرَّب النظام، عبر صحيفة “الوطن” السورية، خبر زيارة قاآني إلى دمشق في 9 أبريل، من دون أن يكشف عن سبب الزيارة أو جدول أعمالها، مؤكداً بذلك حُسْن نيته حيال الدول العربية، وبالأخص السعودية. في حين أن وسائل إعلام إيرانية كانت قد ذكرت أن قاآني حمل عرضاً للنظام حول سُبُل ردع إسرائيل.

وترافقت زيارة قاآني مع اتصال هاتفي بين الرئيسين السوري بشار الأسد والإيراني إبراهيم رئيسي في 9 أبريل. لم يأت بيانا الرئاستين السورية والإيرانية، الذي صدر في أعقاب الاتصال، على ذكر التوترات في الجولان. وفي المقابل، برز تباينٌ سوري-إيراني عبّر عنه صدور بيانين رئاسيَّين منفصلين وغير متطابقين؛ فبينما أكد الأسد، بحسب بيان الرئاسة السورية، على “الأجواء الإيجابية السائدة في المنطقة”، تحدث الرئيس الإيراني عن “تغيير” في مسار النظام العالمي لصالح “محور المقاومة”، على حساب الولايات المتحدة وإسرائيل، وأشار إلى “مستقبل واعد ولامع” ينتظر هذا المحور، بحسب بيان الرئاسة الإيرانية.

هذا التباين أوضح حرص الأسد على إبقاء مسار التطبيع السوري-العربي سائراً نحو خاتمته. فالنظام يريد استعادة علاقاته بالدول العربية، وموقعه ضمن منظومة العمل العربي المشترك، بهدف إحياء الاقتصاد السوري المنهار، من هنا يأتي إيفاده وزير الخارجية فيصل المقداد إلى الرياض في 12 أبريل للتفاوض على رؤية جديدة للحل السياسي للأزمة السورية كشف عنها البيان الصحفي السعودي-السوري المشترك.

ومن الصعب تصوُّر تجاوب النظام السوري، الذي يستعيد علاقاته الإقليمية بشكل ثابت ومتواصل (كانت زيارة وزير الخارجية السعودي إلى دمشق ولقائه الرئيس الأسد علامة فارقة في هذا المسار)، مع العروض التصعيدية الإيرانية. ولدى النظام خشية من أن تؤدي تلك العروض إلى تعزيز نفوذ الإيرانيين داخل سورية عبر دعمهم ميلشيات تحتكر قرار الحرب بعيداً عن النظام، كما يخشى عرقلة مسارات التطبيع العربية والانفتاح الاقتصادي العربي عليه.

وإن كان النظام قد لجأ إلى الصمت حيال عملية إطلاق الصواريخ على الجولان المحتل، فهو يعرف الثمن الباهظ الذي قد ترتبه عمليات كهذه على استقرار النظام وقوته، بينما تملك إسرائيل قدرة هائلة على تدمير ما تبقى من البنية التحتية السورية المدمرة، بل حتى استهداف شخصيات كبيرة في النظام (وقد لوّحت بالفعل بإمكانية اغتيال اللواء ماهر الأسد)،

وفي وقت تمر سورية في أضعف أحوالها منذ نشوئها أوائل القرن العشرين، لذلك عمل النظام على احتواء الحدث، وعدم الانجرار وراء خطوات الحرس الثوري، وإنْ كان أراد أن يتوقف الإسرائيليون عن الاستهداف المكثف لمواقعه.

لكنْ ذلك لا يعني أن النظام بصدد التخلي عن إيران أو تقليل التعاون العسكري معها؛ فمن المتوقع ألا يتخلى النظام عن علاقته العسكرية النشطة مع الإيرانيين الذين يزودونه بتكنولوجيا حربية بديلة عن الأسلحة الروسية، وأن يواصل نشر منظومات الدفاع الجوي الصاروخي الإيراني على الأراضي السورية، وإن كانت لديه تحفُّظات على طرق النقل الإيرانية (استخدام مطارَي دمشق وحلب)، كي لا يفقد وسيلة اتصاله الوحيدة بالعالم. لكن النظام في المقابل سيُصرّ على مطلبه تدريب الضباط السوريين على استخدام منظومات الدفاع الجوي الإيراني التي جرى نصبها في سورية، وتُشغَّل من قبل الضباط الإيرانيين، وتحديث منظومات الدفاع السورية عبر استخدام التكنولوجية الإيرانية.

خلاصة واستنتاجات

بينما تعمل إيران على استغلال الاتفاق السعودي-الإيراني من أجل تصعيد صراعها مع إسرائيل، يريد الرئيس السوري تعزيز الانفتاح العربي والإقليمي على نظامه، مُستغلاً الأجواء الإقليمية الإيجابية ليتجاوز وضعه الاقتصادي الكارثي، ويستعيد دوره ونفوذه بين دول المنطقة.

ولدى النظام السوري مصالح محدودة للغاية في التصعيد الذي شهده الجولان، لذلك سيظل مُتمسِّكاً بمسار التطبيع مع الدول العربية، ولن ينجر وراء قادة الحرس الثوري “المتشددين” الذين كانوا يرغبون سابقاً في تخريب الاتفاق السعودي-الإيراني، قبل أن يستقروا حالياً على استغلاله من أجل تعزيز الضغط على الإسرائيليين. وإذ يُعوِّل النظام السوري على تعزيز قوته وتشغيل اقتصاده المتراجع، فإنه سيُفضِّل في المدى القريب تجنُّب التصعيد سواء مع الإسرائيليين أو حتى مع الأمريكيين.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
مركز الإمارات للسياسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة + 9 =

زر الذهاب إلى الأعلى