رائحة صفقة روسية – تركية – “إسرائيلية” وسط انهيار حكم الأسد
تزامن بدء هجوم الفصائل المسلحة من الشمال السوري جنوباً، مع إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، بعد ساعات من تهديد نتنياهو للأسد بأن الأخير "يلعب بالنار"، لا يترك حيزاً كبيراً للخيال في ربط ما جرى في سوريا بالعدوان على غزة ولبنان.
ميدل ايست نيوز: كما في حالة كل حدث مفصلي أو تحول تاريخي، سيستمر الجدال طويلاً بشأن الانهيار الكبير في سوريا في 8/12/2024، وبشأن الأهمية النسبية لكل من العوامل التي أفضت إليه. ويلاحَظ، منذ الآن، أن الفضاء الإعلامي يطفح بروايات شتى، متقاطعة ومتضاربة، يصب معظمها في جيب أحد اللاعبين الأساسيين في الميدان السوري، إضافةً إلى عواصف الغبار التي يطلقها راكبو الموجات ومروجو الإشاعات.
إزاء تلك الخلفية الصاخبة، فإن رواية الرئيس بشار الأسد، والذي لم يتنحَّ أو يستقِل إلا بحسب الرواية الروسية، تبقى الرواية المغيَّبة، باستثناء ما ورد في البيان اليتيم المنشور في قناة رئاسة الجمهورية العربية السورية، في تطبيق تلغرام، والمؤرخ في 16/12/2024، والذي حُذِف لاحقاً، مع العلم بأن تلك القناة لم تغير شعارها أسوة بسائر المؤسسات الرسمية السورية، ولم تتبنَّ العلم الذي أُقِر عام 1930 في ظل الانتداب الفرنسي على سوريا.
هذا أمرٌ ذو دلالة، لأنه لا يتّسق مع فرضية “التنحي” و”الاستقالة”، والتي أكد البيان، فيما أكده، استبعادَها، مناقِضاً الرواية الروسية، ومُسقِطاً فكرة “التخلي” صراحةً، وداحِضاً فكرة “الهروب”، “وهو من لم يغادر في أصعب أعوام الحرب”، ومضيفاً أن المنصب، في ذاته، يصبح “فارغاً لا معنى له مع سقوط الدولة في يد الإرهاب”، أي أن “سقوط الدولة” يجعل المنصب شكلياً من الناحية العملية، وليس هذا معادلاً للاستقالة أو التنحي رسمياً، ومعبّراً في خاتمته عن الأمل في “أن تعود سوريا حرة مستقلة”.
لعناية المشككين في البيان، وفي صدقية مصدره، أؤكد، بناءً على تحليل نص كل خطاب من خطابات الرئيس بشار الأسد في كتاب “خطاب سنوات الحرب 2011-2019″، والذي صدر عام 2020، وبناءً على اللقاءات العامة والخاصة معه، أن نص البيان يطابق أسلوب الرئيس الأسد في المعنى والمبنى، باستثناء غياب أي إشارة إلى العروبة، أو إلى هوية سورية العربية مثلاً.
يثير البيان بدوره تساؤلاتٍ كبيرةً بشأن الطريقة التي وصل عبرها الأسد من قاعدة حميميم إلى موسكو، وما إذا كانت طوعية تماماً، أو نتيجة مؤامرة عليه، وما إذا كان حالياً شبه مسجونٍ، بما أنه غير حر في التواصل مع وسائل الإعلام، حتى من دون لقاء مباشر، وخصوصاً في ضوء الإشارة، التي قُدِم فيها بيانه، والتي لا تزال موجودة مع البيان في صفحة رئاسة الجمهورية في منصة “أكس” X، والتي تقول: “بعد عدة محاولات غير ناجحة لنشر هذا البيان عبر وسائل الإعلام العربية والأجنبية، كانت الطريقة الوحيدة المتاحة هي نشره على منصات التواصل لرئاسة الجمهورية السابقة”.
والأرجح أن كلمة “السابقة” أضيفت هنا لمنع حذف المنشور، بتهمة “انتحال شخصية”، بحسب قوانين وسائل التواصل الاجتماعي، بعيداً عن نص البيان ودلالاته.
كما أن حذف البيان الرئاسي من منصة “تلغرام”، والذي يفترض أنه ما زال مستقلاً عن الرقابة الغربية (في مقابل عدم حذفه في منصة “أكس”)، يشير إما إلى ضغوط روسية لحذفه، وإما إلى إجراءٍ اتخذته إدارة تطبيق تلغرام من تلقاء ذاتها، وإما من جراء ضغوط مورست عليها.
في الحالتين، يتوجب على الروس أن يوضحوا الحالة الراهنة للرئيس بشار الأسد، وما إذا كان مسجوناً في روسيا، أم قابعاً تحت الإقامة الجبرية، ولماذا لا يستطيع التواصل بحرية مع الإعلام. وهي مسألة سيادية عربية لا تخص سوريا وحدها، بغض النظر عن موقف القارئ الكريم من بشار الأسد شخصياً، وما إذا كان يَعُدّه رئيساً حالياً أو سابقاً، وما إذا كان معارضاً أم موالياً له، أم أصبح من المتلونين. وإنها ليست المرة الأولى، التي يختفي فيها مسؤول رسمي عربي كبير في دولةٍ ثانية، كما يعرف اللبنانيون جيداً.
المهم، كان لافتاً قول الرئيس بوتين، في مؤتمره الصحافي السنوي في 19/12/2024، إنه لم يلتقِ الرئيس الأسد بعدُ منذ قدومه إلى موسكو، وإنه “سيتحدث إليه بالتأكيد”، أي أنهما لم يتحادثا بعد، حتى هاتفياً، وربما يجري التفاوض مع الرئيس الأسد الآن لإصدار بيان رسمي بالتنحي أو الاستقالة تحت وطأة التهديد بإخراجه من روسيا، أي تحت وطأة تسليمه بصورة غير مباشرة، وهو ما سيضر بصدقية روسيا مع حلفائها، وصولاً إلى “اتحاد دول الساحل”.
ربما تُبقي روسيا الرئيس الأسد في الظلال، بعيداً عن بؤرة الضوء، إعلامياً وسياسياً، وهي تحاول المحافظة على قواعدها في سوريا، وتحسين العلاقات بالنظام التركي، واستقطاب الأنظمة العربية الخليجية إلى صفها.
ويلاحَظ أن بوتين عدّ “إسرائيل”، في مؤتمره الصحافي السنوي، “المستفيدةَ الأساسيةَ من التطورات في سوريا”، وأقرّ، في ذلك المؤتمر، بأهداف السياسة التركية المعلنة في سوريا، وهي: “ضمان أمن حدودها الجنوبية”، و”عودة اللاجئين إلى سوريا”، و”إبعاد المجموعات الكردية عن الحدود”، بحسب “روسيا اليوم”، في 19/12/2024؛ أي أن بوتين أقر فعلياً بـ”مشروعية” التمدد التركي في سوريا، سواءٌ بصورةٍ مباشرة، أو غير مباشرة، عبر نظام وكيل تابع في دمشق، وهي في الأساس نقطة تناقض مع الرئيس الأسد.
لا يُعفينا كل ذلك طبعاً من التساؤل عن العوامل المُفضية إلى “سقوط الدولة في يد الإرهاب”، والتي كان وصول الرئيس الأسد إلى موسكو، مساء يوم 8/12/2024، “في اليوم التالي لسقوط دمشق، وبعد سقوط آخر المواقع العسكرية”، بناءً على طلب موسكو إلى قيادة قاعدة حميميم، أحد عوارضها الجانبية فحسب.
لعل العامل الأهم في ذلك السقوط هو امتناع الجيش عن القتال، بعد أن “تبيّن انسحاب القوات من خطوط القتال كافةً، وسقوط آخر مواقع الجيش”، كما يفيد البيان الرئاسي، الأمر الذي يؤكد أن الرئيس الأسد فوجئ بتلك الانسحابات، وأنها جرت بصورة منهجية بناءً على أوامر من قيادات عليا، وليس نتيجة تفرق شمل الجنود والضباط عشوائياً كجيشٍ منهزم تفرَّق شمله.
أمّا لماذا انسحب الجيش وامتنع عن القتال، فثمة مصادر شتى، منها ما هو أميركي، ومنها ما هو محسوب على محور المقاومة، تشير إلى عملية شراء ذمم مموَّلة جيداً وواسعة النطاق، على مستوى كبار الضباط، سنعود إليها بعد قليل.
هناك، في المقابل، رواية شائعة تنسب ذلك الانهيار إلى وطأة الحصار الاقتصادي الخانق، الذي دمر معنويات الجنود العاديين وروحهم القتالية، منها، مثلاً لا حصراً، تقرير في موقع “الراديو العام الحكومي” الأميركي NPR، في 18/9/2024، تحت عنوان “لماذا انهار الجيش السوري بهذه السرعة؟”.
تحدثت تقارير أخرى عن “دولة متهالكة، جرى تجويفها من جراء أعوام من العقوبات، التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية، والفساد المستشري في النظام، والضربات الجوية الإسرائيلية للبنية التحتية العسكرية”، على حد وصف تقرير في موقع “ذا نيويوركر” الأميركي، في 8/12/2024، بعنوان “سقوط سوريا الأسد”.
تركّز تقارير أخرى على أهمية العامل الخارجي، مثل روسيا، التي تتعرض حالياً لـ”حرب استنزاف في أوكرانيا، الأمر الذي جعلها غير قادرة على دعم الحكومة السورية، كما كانت تفعل في الماضي”، بحسب “نيويورك تايمز”، في 18/12/2024، وهو الخط الذي يتبناه كثيرون من المعلقين البريطانيين، الذين يَعُدّون الدعم، الذي يقدمه الغرب الجماعي إلى أوكرانيا، عاملاً رئيساً في إسقاط الدولة السورية.
هناك، في المقابل، الخط “الإسرائيلي”، الذي ينسب ذلك “الفضل” إلى نفسه، كما عبّر عنه نتنياهو في فيديو من الجولان المحتل، يوم الانهيار الكبير، في 8/12/2024، حين قال حرفياً “إن انهيار الأسد هو نتيجة مباشرة لعملنا القوي ضد حزب الله وإيران، الداعمين الرئيسين للأسد”.
عقد نتنياهو، في اليوم التالي، في 9/12/2024، مؤتمراً صحافياً في القدس المحتلة، جاء فيه، بحسب الموقع الرسمي لرئاسة حكومة الاحتلال: “أمس، انهار نظام الأسد في سوريا، الحلقة الرئيسة في محور الشر الإيراني، بعد 54 عاماً… وبالنسبة إلينا، لقد عزز هذا النظام العداء والكراهية، وهاجمنا في حرب يوم الغفران، وكان بمنزلة موقع أمامي للإرهاب الإيراني، وشكل خط أنابيب من إيران إلى حزب الله”.
وكرر نتنياهو “أن انهيار النظام السوري هو نتيجة مباشرة للضربات القاسية، التي وجهناها إلى حماس وحزب الله وإيران… منذ الـ7 من أكتوبر، عملنا، بصورة منهجية وحكيمة ومنظَّمة، على تفكيك محور الشر. ولم يحدث هذا من تلقاء نفسه، ولم تكن تلك مصادفة”.
المغزى في ابتهاج نتنياهو أنه يَعُدّ ما جرى في سوريا جزءاً من إنجازات الكيان الصهيوني في مواجهة محور المقاومة، ورأينا كيف تُرجم ذلك الخطاب الاحتفالي بـ”سقوط بشار”، على صورة خطط تنفيذية لاحتلال مزيد من الأراضي السورية، مع ما تحويه من مواقع استراتيجية، مثل جبل الشيخ، ومن موارد مائية، وحركة التفاف لتطويق حزب الله من الشرق، تماماً كما بسطتُ في مادة “سيناريوهات تصاعد الصراع من جنوبي لبنان إلى الجولان”، في 20/10/2024.
لا شك في أن انشغال إيران بالصراع مع الكيان الصهيوني، والضربات التي تلقاها حزب الله في لبنان، أثرت في قدرتيهما على التحشيد في سوريا. والحقيقة أن تزامن بدء هجوم الفصائل المسلحة من الشمال السوري جنوباً، مع إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، بعد ساعات من تهديد نتنياهو للأسد بأن الأخير “يلعب بالنار”، لا يترك حيزاً كبيراً للخيال في ربط ما جرى في سوريا بالعدوان الصهيوني على غزة ولبنان، كما أشرت في مادة سابقة أيضاً.
لكنّ ذلك التفسير، كما قد يقول البعض، يتجاهل العامل الداخلي في الانهيار، وهو ما دأب عليه فريقٌ من المحللين الروس، راحوا يُلقون اللوم على عدم رغبة السوريين في القتال دفاعاً عن بلدهم، و”أخطاء الأسد”، والبنية الرثة للجيش… إلخ، وعلى تخلي الإيرانيين وحزب الله والعراقيين عن سوريا. ولم تبتعد إشارة الرئيس بوتين، في مؤتمره الصحافي السنوي، إلى إجلاء 4000 من “جماعة إيران” في سوريا، عبر قاعدة حميميم، عن الرسالة ذاتها.
دعونا نَعُدْ إلى نقطة البداية إذاً: هل كان الحصار الخانق سبب انهيار الجيش؟ الجواب هو أن الحصار الخانق، وكل تداعيات قانون قيصر، ومجمل الحرب الاقتصادية على سوريا، زائداً وضع الاحتلال الأميركي يديه على ثروات سوريا الطبيعية في المنطقة الشرقية، وحرمان سوريا المحاصَرة منها، ساهمت كلها، بصورةٍ فعالة، في تردي الأحوال المعيشية، وترقق قواعد موالاة الدولة السورية، وإضعاف المعنويات، وتفشي الفساد، ووصوله إلى مستويات غير مسبوقة.
ولو وجهت روسيا 1% فقط من النفط والغاز، اللذين مُنعت من بيعهما في الأسواق الدولية، نتيجة العقوبات عليها بعد حرب أوكرانيا، لحلت الأزمة الاقتصادية في سوريا، لكنها كانت تطلب الدفع مسبّقاً بالعملة الصعبة، كما طالبت بتوقيع “معاهدة سلام” سورية مع الكيان الصهيوني برعايتها، تكرّس زعامتها الدولية، إضافةً إلى مصالحة النظام التركي قبل انسحابه من الشمال السوري؛ أي كانت تطلب إلى الرئيس الأسد التخلي عن آلاف الكيلومترات المربعة لتركيا فعلياً، وهو ما لم يقبله الرئيس الأسد في الحالتين طبعاً.
في الآن عينه، حصلت شركات روسية على امتيازات واسعة النطاق في سوريا المحاصَرة، كانت في معظمها استثمارات ذات طابع استخراجي، أو في مصانع وبنية تحتية قائمة أصلاً، لم تسفر عن فائدة تنموية أو تشغيلية تُذكَر للاقتصاد السوري المختنق بحصاره.
على الرغم من ذلك، فإن الحالة المعيشية لا تفسر الانهيار السريع للجيش والقوات الرديفة والأجهزة الأمنية السورية، لأن الانسحابات كانت منظّمة أكثر من كونها منها عشوائية، أي أنها لم تنتج، في معظمها، من قرارات فردية تقضي بالانسحاب، فلا بد إذاً من أن اختراقاً أمنياً عالي المستوى، مموَّلاً بسخاء، وقع، كما نقلت مواقع أميركية. ومصادر إعلامية، محسوبة على محور المقاومة، نقلت أيضاً أن ضباطاً كباراً على علاقة بالروس اتخذوا قرار الانسحاب.
يُذكَر، على سبيل المثال، أن الفيلق الخامس، الذي جرى تشكيله من طرف الروس، والذي يضم عشرات آلاف “مسلحي المصالحات”، من محافظات درعا والقنيطرة وريف دمشق في الجنوب السوري، والذين يدفع رواتبهم الروس، دخل دمشق “ثائراً” قبل “ثوار الشمال”!
تطفح رائحة صفقة روسية – تركية – “إسرائيلية” في الأجواء إذاً، على الرغم من أن خسائر روسيا الجيوسياسية من “سقوط النظام” تفوق مكاسبها المحتملة من تسليم سوريا إلى التركي و”الإسرائيلي”، لكنّ لعبة روسيا الاستراتيجية، فيما سمّاه الاستعمار الغربي “الشرق الأوسط”، تقوم على سحب البساط من تحت قدمَي الإدارة الأميركية، من خلال استقطاب حلفائها، مثل تركيا والكيان الصهيوني والأنظمة العربية الرجعية. وهي اللعبة، التي استخدمت روسيا سوريا منصةً لدخولها، إذ إن وزن روسيا إقليمياً قبل 30/9/2015 كان قيمة مهمَلة فعلياً.
وإن شاء الله سيثبت لروسيا أن رهانها على الحلول محل الولايات المتحدة في المنطقة، من خلال “إغواء” حلفاء الأخيرة بصفقات الغاز والمفاعلات النووية ومنظومات الـ S-400 وغيرها، سوف يُدخلها في الحائط المسدود.
وكان تحالف روسي – إماراتي في سوريا راح يدفع في اتجاه إبعاد إيران وحزب الله عنها، وفي اتجاه ترويج مقولات ساداتية عن “السلام الاقتصادي” والتصالح مع العدو الصهيوني، والسير حثيثاً في مسار “تحرير السوق”، في عز الحصار والمعاناة المعيشية، وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة (وحزب البعث) على نحو يتلاءم مع ذلك التوجه الرث، في مقابل وعود برفع الحصار عن سوريا غربياً “قريباً جداً”.
وكان ذلك أحد المنزلقات الخطيرة سياسياً، والتي ضربت الروح القتالية لدى قسم من الشعب السوري، راح يعيش أوهام العيش الرغيد بعد الضنك الشديد على وقع بساطير أفواج المحتلين وجنازير دباباتهم، وسواطير مشاريع التفكيك، التي تمعن تقطيعاً بالبلاد.
المهم أن الثائر “المدني الحضاري”، أبا محمد الجولاني، أزال الجمارك، وسمح بالتعامل الحر بالدولار.
وللحديث بقية بكل تأكيد.
إبراهيم علوش
مؤلف وأستاذ جامعي