لماذا صعّدت ألمانيا موقفها تجاه إيران؟
يُستشفّ من حديث ماس أنّ ألمانيا راغبة باختصار المراحل والتفاوض مباشرة على إنتاج الاتّفاق الموسّع.
“لا نثق بإيران”
حين سألته صحيفة “دير شبيغل” عمّا إذا كان اغتيال العالم النووي الإيرانيّ البارز محسن فخري زاده سيصعّب عودة الولايات المتّحدة وإيران إلى طاولة المفاوضات، أجاب: “إنّ عودة إلى الاتّفاق النوويّ السابق ليست كافية في جميع الأحوال”. وأضاف أنّه “يجب أن يكون هنالك نوع من ‘اتفاق نووي بْلاس‘، وهو أيضاً من مصلحتنا”، مؤكّداً أنّ ألمانيا تتوقّع ألّا تنتج إيران أسلحة نوويّة ولا “برنامج صواريخ بالستيّة يهدّد كلّ المنطقة”. وذكر أنّ الألمان يحتاجون إلى هذا الاتّفاق الموسّع “لأنْ لا ثقة لدينا بإيران”.
ما طالب به ماس يتناسب مع مطلب الرئيس الأميركيّ المنتخب جو بايدن، إن لم يكن يفوقه تشدّداً. يريد بايدن العودة إلى الاتّفاق النوويّ قبل أن يعمل على توسيع بنوده بالتشاور مع الحلفاء. بينما يُستشفّ من حديث ماس أنّ ألمانيا راغبة باختصار المراحل والتفاوض مباشرة على إنتاج الاتّفاق الموسّع. وقال ماس إنّه اتّفق على هذه النقاط مع نظيريه الفرنسيّ والبريطانيّ.
كان لافتاً للنظر أيضاً استخدام وزير الخارجيّة الألمانيّ لغة ديبلوماسيّة غير معهودة حين قال إنّ بلاده لا تثق بإيران، وهو كلامٌ يرقى إلى ما يمكن توقّعه من إدارة متشدّدة تجاه طهران، كإدارة ترامب، علماً أنّ ماس انتقد سياستها خلال المقابلة نفسها.
لقد ناقضت برلين واشنطن منذ انسحابها من الاتّفاق النوويّ وحتى إطلاق “آليّة الزناد” في مجلس الأمن. وحاولت ألمانيا مع فرنسا والمملكة المتّحدة إطلاق آليّة “إنستكس” للتبادل التجاريّ ذي الطبيعة الإنسانيّة مع إيران لتخفيف تأثير العقوبات الأميركيّة، علماً أنّ التبادل التجاريّ لأغراض إنسانيّة غير خاضع لعقوبات واشنطن.
الحلقة الأضعف
تعود العلاقات الألمانيّة-الإيرانيّة إلى سنة 1952 وتوطّدت بمرور الوقت خصوصاً في المجالات التجاريّة والصناعيّة والعلميّة. بعد فرض العقوبات الأميركيّة على إيران، تراجع الحجم الإجماليّ للتجارة بين البلدين بحوالي 45% سنة 2019 بالمقارنة مع 2018. وكانت الصادرات الألمانيّة إلى إيران تساوي مليار ونصف المليون من اليورو، فيما بلغت الصادرات الإيرانيّة إلى ألمانيا حوالي 200 مليون يورو.
شرح كونتزل قليلاً المسار التاريخيّة الذي يجعل ألمانيا “الحلقة الأضعف” بين جميع الدول الأوروبّيّة في ما يتعلّق بتجديد العقوبات على إيران. فألمانيا وإيران، كدولتين غير نوويّتين، تتشاركان المصحلة في تقديم أوسع تفسير لـ “معاهدة الحدّ من الانتشار النوويّ”. وفي 1995، قوّضت ألمانيا العقوبات التي فرضتها إدارة بيل كلينتون على إيران، عبر تعزيز صارداتها إليها. وفي أيلول 2004، قال وزير الخارجيّة الألمانيّ جوشكا فيشر: “نحن الأوروبّيّين نصحنا دوماً شركاءنا الإيرانيّين عبر مصلحتهم الراسخة بالنظر إلينا كدرع واقٍ لهم”. وفي كانون الثاني، دافع هاس نفسه عن موقف بلاده من الاتّفاق بكونه المثل الأفضل عن صحّة الإصرار الألمانيّ على أنّ التغيّرات تتمّ فقط عبر الحوار.
تغيّر تدريجيّ
بين كانون الثاني وكانون الأوّل 2020 برز تغيّر ملموس في السياسة الخارجيّة الألمانيّة تجاه إيران. لكنّه تغيّر تدريجيّ أيضاً. في 30 نيسان الماضي، حظّرت برلين جميع نشاطات “حزب الله” بما فيها جمع التبرّعات ووضعته على لائحة الإرهاب.
وفي 23 تشرين الثاني، عقد الثلاثيّ الأوروبّيّ اجتماعاً لمناقشة الملفّ الإيرانيّ قبل دخول الرئيس المنتخب جو بايدن. حينها قالت الناطقة باسم وزارة الخارجيّة الألمانيّة إنّه “من وجهة نظرنا، تنتهك إيران الاتّفاق بشكل منهجيّ”. وأضافت أنّ الثلاثيّ يحضّ إيران على وقف هذه الانتهاكات والعودة إلى تنفيذ موجباتها النوويّة”.
وبعد اغتيال العالم النووي الإيرانيّة محسن فخري زاده، تميّزت ألمانيا بموقفها عن الحلفاء الأوروبّيّين الذين أدانوا العمل ووصفوه بـ “الإجراميّ”. دعت برلين جميع الأطراف إلى التهدئة وضبط النفس. لكنّها لم تستخدم التوصيف نفسه.
حتى خلال المقابلة مع “دير شبيغل”، جاء ردّ ماس ملتبساً حول عمليّة الاغتيال. حين سئل مباشرة عمّا إذا كان يعتبر الهجوم على فخري زاده “أداة شرعيّة” أجاب: “لا. بعبارات مجرّدة، قد يكون هنالك أوضاع حيث بإمكان القانون الدوليّ أن يسمح بمنع أفراد من تنفيذ إجراء محدّد – لمنع الجرائم الوشيكة مثل الهجمات، على سبيل المثال. لكنّ خطرَ جعل الوضع أكثر خطورة حتى، بديهيّ”.
استدارة؟
لقي تصريح ماس ردّاً من نظيره الإيرانيّ محمّد جواد ظريف الذي طالب وزراء خارجيّة الدول الثلاث باحترام التزاماتهم والتوقّف عن انتهاك اتّفاقيّة فيينّا. كما طالب ألمانيا بـ “وقف التمييز العنصريّ الكريه” ضدّ الفلسطينيّين عقب صدور تقرير ذكر أنّ برنامجاً لتوزيع لقاح أوروبّيّ ضدّ “كورونا” سيشمل الإسرائيليّين علماً أنّ إسرائيل ليست دولة في الاتّحاد الأوروبّيّ كي تستفيد من البرنامج. وانتقد بيع الأوروبّيّين أسلحتهم لدول الخليج و”الدعم الأعمى للإرهاب الإسرائيليّ”.
إنّ استنتاج وجود استدارة في السياسة الألمانيّة تجاه طهران لا يزال مبكراً. قد تهدف التصريحات الديبلوماسيّة الأخيرة إلى فرض ضغط على إيران قبل العودة إلى طاولة المفاوضات. ثمّة شعور وعلى الأرجح إدراك أوروبّيّ بأنّ الإيرانيّين ينظرون إلى بروكسل كمجرّد معبر إلى واشنطن وربّما يرغب الأوروبّيّون بتغيير هذه النظرة قبل المحادثات.
والإيرانيّون لا يخفون مقاربتهم هذه للأوروبّيّين على أيّة حال. في حديث إلى المجلّة الألمانيّة نفسها، يقول أستاذ العلوم السياسيّة المقرّب من دوائر الحكم العليا في إيران ناصر هاديان: “لقد تعلّمنا أنّ الأوروبّيّين غير مهمّين في هذا الاتّفاق” مضيفاً: “وحدهم الأميركيّون يقرّرون”.
تحدّث تقرير ثانٍ لـ “دير شبيغل” عن جوّ ديبلوماسيّ عام في برلين لا يكتفي بالعودة إلى الاتّفاق الأساسيّ بل يطالب بمعالجة برنامج إيران الصاروخيّ وسلوكها الإقليميّ. سواء كان هذا الضغط جزءاً من تصعيد ديبلوماسيّ يسبق المفاوضات أم جزءاً من إعادة تقويم برلين لسياستها الإيرانيّة، تبقى النتيجة واحدة: حين توقّعت إيران تخفيف التصعيد من واشنطن، جاءها التشدّد من برلين. يبدو أنّ طريق العودة إلى الاتّفاق النوويّ – بشكله القديم أو المطوّر – قد تكون أطول من طريق الخروج.