ناصر تقوائي… صانع سينما إيرانية بحتة رغم عوائق وقيود

يتردّد اسمه لدى سينمائيين إيرانيين باحترامٍ وإعجاب كثيرين، فهو أحد أبرز شخصيات الموجة السينمائية الإيرانية الجديدة، ومخرج فتح طريقاً لا مثيل له لسرديات صادقة عن الحياة الإيرانية.

ميدل ايست نيوز: يتردّد اسمه لدى سينمائيين إيرانيين باحترامٍ وإعجاب كثيرين، فهو أحد أبرز شخصيات الموجة السينمائية الإيرانية الجديدة، ومخرج فتح طريقاً لا مثيل له لسرديات صادقة عن الحياة الإيرانية، ومبدع سابق عصره، ذاق عذاب الوحدة والمرارة.

وإن لم تكن شهرته أو ذكره لدى الجمهور الإيراني يتمّان بقدر ما يحصل مع مَراجع أخرى أساسية في السينما الإيرانية، كداريوش مهرجوي وبهرام بيضائي ومسعود كيميائي، فالنظرة إلى “الأستاذ” تقوائي تحمل حباً وتقديراً. تعدّد جوائزه الوطنية دلالةٌ على تقدير محلي كبير، إذْ يُعَدّ من الأفضل حين يتعلق الأمر بتسمية أهم المخرجين وأكثرهم تأثيراً في تاريخ السينما الإيرانية.

المخرج والكاتب الإيراني ناصر تقوائي، الراحل في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025 عن 84 عاماً، بدأ صناعة الأفلام أواخر أربعينيات القرن الـ20. لكن اهتمامه بالسينما والأدب يعود إلى المُراهقة، وشاباً عمل مع الفريق الفني لـ”المرآة والطوب” (1965) لابراهیم گلستان، وتابع بعدها مع أبرز شخصيات الموجة السينمائية الجديدة، التي بدأت في الخمسينيات الماضية، وشقّت طريقاً معارضاً لسينما فارسية تجارية، متأثّر أسلوبها بالأفلام الأجنبية المعروضة في السوق (أميركية، هندية، مصرية)، وأدخلت الروح الإيرانية والقضايا الإيرانية بقوة في أعمالها، ما جعلها تخضع للرقابة والمُصادرة، قبل الثورة وبعدها.

رغم أعماله القليلة، لكن تأثيره على السينما الإيرانية والمسلسلات كبير. بأنشطةٍ متعدّدة التخصصات، بنى جسراً بين السينما والأدب والمجتمع، وألهم فنانين من أجيال لاحقة. أما معاناته مع الرقابة في عهد الشاه فبدأت حين مُنع فيلمه الأول، “هدوء في حضرة الآخرين” (1970)، المستوحى من قصة الأديب غلام حسين ساعدي (مُلهم مخرجين إيرانيين آخرين من الموجة الجديدة، ولا سيما مهرجوي). الفيلم، الذي أجيز بعد أربع سنوات، يسرد حياة عقيد متقاعد وعلاقته ببناته. ورغم فشله التجاري، بسبب ظروف عرض عاناها، اختير أحدَ أفضلِ الأفلام في تاريخ السينما الإيرانية، في استطلاع رأي أجراه نقّاد “فيلم” (مجلة سينمائية شهرية) وكتابها. بعد الثورة، واجه تقوائي قيوداً جديدة، إذْ تابعت الرقابة مهمتها في تصيّد الأعمال “غير الملائمة”. حفلت مسيرته الفنية بضغوط شديدة ومراقبة، لكنه لم يستسلم لمطالبها، مُفضّلاً الغياب على حضور لا يكتمل. ووفقاً لمقابلات له مع الصحافة الإيرانية، رفض خضوع أيّ من أفلامه للرقابة، وأصرّ على استقلاليته الفنية، إلى درجة أنه توقف عن العمل، وغاب عن السينما منذ آخر فيلم له، “أوراق بلا سطور” (2001).

ورغم قِصر مدّتها، إذا استُثنِيتْ مرحلة التوقف عن صنع الأفلام، زخرت مسيرته الفنية بالعمل والإنجازات: 12 قصة قصيرة، 13 فيلماً وثائقياً، أحدها عن الشاعرة فروغ فرخزاد، إلى ثلاثة أفلام روائية قصيرة، وستة روائية طويلة، ومسلسل تلفزيوني بعنوان “العم نابليون العزيز” (1976)، مدّته 16 ساعة، وفيلمين غير مُكتملين، بدأهما عامي 2002 و2003.

ناصر تقوائي مولود في قرية بعبادان، جنوب غربي إيران. طبع التنقّل ومجاورة الموانئ والعمال طفولته، ما ترك أثره لاحقاً على أعماله عامة، وعلى “القبطان خورشيد” (1986) خاصة، رابع أفلامه في مسيرته والأول بعد الثورة، الذي يُعتبر من أهم إنجازاته، وفيه ميزات عَلّمت مساره السينمائي مخرجاً من الموجة الجديدة، يرى أن طريق السينما يمكن أن يمر عبر الأدب. اقتبس الفكرة من قصة للكاتب الأميركي أرنست همنغواي، “أن تمتلك أو لا تمتلك”. لكنه أنجز فيلماً إيرانياً خالصاً، عكس اهتمامه بـ”الطابع الإيراني” للأفلام، وهو هاجس جعل البحث عن الهوية الإيرانية عنصراً مشتركاً في قصص أفلامه. القبطان خورشيد بحّار في الخليج، يساعد المجرمين على مغادرة البلد عبر البحر، رغم المخاطر، ما يوقعه في أزمات لن ينجو منها. تدور الأحداث في بيئة إجرامية لأناس هامشيين، وصُوّرت مشاهدها في جنوب إيران (ميناء شبه مُدمّر، وسكان غريبون) بدقة متناهية. بدا كل شيء في مكانه تماماً. وما يُضفي على الفيلم تميّزاً أكثر من أي شيء آخر معالجته المناسبة للقصة، وتكيّفها الكامل مع بيئة إيرانية.

وتقوائي تأثر بمكان علّم طفولته. في مقابلات معه منشورة في صحف ومجلات إيرانية، ذكرها الصحافي علي سيف إلهي في مقالة عنه منشورة في موقع “فيلميو شات” في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2025، قال تقوائي إنّه اختار نوعاً معيناً من القصص يمكنه أن يجد شكلاً إيرانياً كاملاً، وإلا فيُفضَّل عدم إنتاجها إطلاقاً. ويذكر مثلاً ملموساً على رأيه بالقول إن التشابه بين قصة “أن تمتلك أو لا تمتلك” وفيلمه “جوهري”، إذِ استبعد ما لم يكن مُشابهاً، أو لم يكن موضوعه أولاً، محتفظاً بالحالات المُشابهة والمفيدة التي جسّدت الشخصيات الإيرانية بعمقٍ وتفصيل. كما تمكّن من التعبير عن اللغة السائدة في تلك المنطقة (خليط العربية والفارسية والإنكليزية)، واستطاع نقل طبيعة الجنوب ولغته ومصطلحاته البحرية وأجوائه وشخصياته.

بعد حظر فيلمه الأول وفشله التجاري، حقّق ناصر تقوائي فيلماً، اعتبره “نصباً تذكارياً لعصر التحوّل من السينما الفارسية إلى الإيرانية”، حين باتت السينما الفن الوطني لإيران: “صادق الكردي” (1972) عمل مختلف في مجال أفلام الجريمة والإثارة الإيرانية، استخدم فيه تقنية “فلاش باك” التي لا يميل إليها عادة. الفيلم مستوحى من قصة حقيقية عن الانتقام الفردي، والدفاع عن الشرف، حصلت على طرق جنوبي إيران، أوائل ثلاثينيات القرن الماضي.

فيلمه الثالث أقل شهرة: “اللعنة” (1973)، مستوحى من قصة “المستنقع”، للفنلندي ميكا والتاري، عن القدر والمصير وطبيعة الإنسان وأبعاده الفلسفية، ونشوء الكوارث. آخر أفلامه، “ورق بلا خطوط” (2001) فاز بجائزة التحكيم الخاصة للإخراج في مهرجان فجر بطهران، العام نفسه، ومُنح الجائزة الذهبية لأفضل فيلم، التي اختارتها جمعية النقاد والكتاب: عن الحياة اليومية لزوجين عصريين من الطبقة الوسطى، تناولها بأسلوب غير مباشر، صانعاً عالماً مجازياً. اعتبر سينمائيون عديدون، كتهمينة ميلاني وأمير نادري وبرويز روستائي، في نعيهم ناصر تقوائي، أنه “فنان لم يُعطَ قدر حقّه”، وأنه عاش بصمت وعزلة سنوات، وأن حياته مرة ومؤلمة، وقَسا الدهر وأهله غير الأكفاء عليه. كما أن أحداً لم يختلف على أعماله التي صمدت وستصمد.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية − 7 =

زر الذهاب إلى الأعلى