ماكس فيبر في السعودية: برنامج تعزيز الشخصية السعودية
في طليعة هذا الجهد الرامي لغرس المزيد من قيم المبادرة الجريئة يأتي أحد برامج رؤية السعودية 2030 غير المعروف جيدًا، ألا وهو برنامج تعزيز الشخصية السعودية.
ميدل ايست نيوز: في الوقت الذي تواجه فيه المملكة العربية السعودية أزمة مزدوجة من جائحة فيروس كورونا، وتداعياتها اللاحقة المتمثلة في التراجع الحاد في الطلب على النفط، تقوم قيادتها باتخاذ تدابير اقتصادية قاسية. حيث حذر وزير المالية محمد الجدعان الجمهور السعودي من أن الحكومة ستتخذ خطوات صارمة لتقليص الإنفاق وحماية التمويل الحكومي، وقد تم تنفيذ هذه الإجراءات. في 11 مايو/أيار، أعلنت الحكومة عن زيادة ضريبة القيمة المضافة ثلاثة أضعاف، وإلغاء بدل تكاليف المعيشة للموظفين الحكوميين. وفي هذه الأثناء، أصبح وضع السعوديين العاملين في القطاع الخاص أكثر هشاشة، حيث يعاني القطاع غير النفطي من تدابير للتخفيف من الجائحة.
من المرجح أن تشهد مطالب التقشف الأكثر صرامة احياءً للسردية التي بدأت عندما أطلق ولي العهد محمد بن سلمان أجندة رؤية السعودية 2030 للمرة الأولى، متعهدًا بإعادة تشكيل الاقتصاد والمجتمع السعوديين. عادت مقابلته الأولى بذاكرتنا إلى الجيل المؤسس للمملكة العربية السعودية، الذين بنوا البلاد دون الاستفادة من عائدات النفط الوفيرة. وتم التخفيف من هذه الرسالة عندما احتلت الإصلاحات الاجتماعية مركز الصدارة، وغالبًا ما يتم السعي لها من خلال مشاهد عامة براقة ومشاريع ترفيهية. ومع ذلك، فقد يتطلب التراجع في الثروات الاقتصادية استئناف سردية المؤسسين المرتبطة بتقشفٍ أشد.
في طليعة هذا الجهد الرامي لغرس المزيد من قيم المبادرة الجريئة يأتي أحد برامج رؤية السعودية 2030 غير المعروف جيدًا، ألا وهو برنامج تعزيز الشخصية السعودية. في هذا البرنامج، لا يتم تقديم الإسلام في شكل مبادئ عقائدية، وإنما في صورة مبادئ تحفيزية: الاعتدال والتسامح، والتفوق والانضباط، والإنصاف والشفافية، والإصرار والمثابرة. وهي مبادئ مصممة لرعاية السعوديين الذين لم يعودوا يسترشدون بالانضباط الصارم الذي تفرضه الشرطة الدينية، وإنما هي أشبه ما تكون بنسخة إسلامية من “الأخلاق البروتستانتية” التي تم صياغتها في الدراسة الكلاسيكية لعالم الاجتماع ماكس فيبر. وفي الوقت الذي يواجه فيه الشباب السعودي مستقبلًا جديدًا، يتسم بقدر أكبر من الحرية الاجتماعية، ولكن بثروة أقل، هل تهيمن “روح الرأسمالية” على الروح الأبوية التي سبقتها؟
رؤية 2030 والشخصية الوطنية
قد يشكك البعض في مدى ملائمة هذا البرنامج – الذي تم وضعه بمساعدة مستشارين أجانب – لحياة المواطنين السعوديين اليومية. ومع ذلك، فإن رؤية السعودية 2030 ليست حبيسة خزانة ملفات البيروقراطية السعودية. إنها خارطة طريق ولي العهد للمملكة العربية السعودية الجديدة، ويتم التعامل معها باحترام، ويتم ترويجها للجمهور عبر استراتيجية تواصل متعددة الأوجه. وقد تمت مناقشة نقاطها الدقيقة في وسائل الإعلام السعودية، وطُرحت بشكل مكثف في صور تغريدات لنشطاء وسائل التواصل الاجتماعي. وتم إدراج كتاب تمهيدي لبرامجها ضمن الكتب المدرسية الجديدة في المملكة. حتى إن هنالك برنامج ألعاب على التلفزيون السعودي يختبر معرفة المتسابقين بخطة الرؤية.
تصل صلاحيات رؤية السعودية 2030 إلى ما هو أبعد من الاقتصاد، حيث لا تقتصر فقط على الإصلاحات الاقتصادية ولكن تشمل تحسينات في نوعية الحياة ودعم بناء الأمة. وبالفعل، فإن أول الأهداف الاستراتيجية الستة التي تم التخطيط لها في الرؤية تتعلق بتعزيز “الهوية الإسلامية والوطنية”. ولتحقيق هذه الأجندة، أنشأت الحكومة السعودية برنامج تعزيز الشخصية السعودية.
يستهدف مشروع الهندسة الاجتماعية هذا، بشكل مباشر، الشباب السعودي لإنشاء “جيل متماسك وناجح وموجه سياسيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا نحو المملكة العربية السعودية”. وينص على تعزيز الهوية الإسلامية والوطنية، لكنه يتخذ مسارًا يحيد بشدة عن الأخلاق السعودية التقليدية، التي تُركز على المبادئ العقائدية والقيود الدينية. وبدلاً من ذلك، يسعى البرنامج إلى “تعزيز قيم ريادة الأعمال والكرم والتطوع والتفوق والعمل الجاد والطموح والتفاؤل”. هي سياسات تتمركز حول الشباب، وتطمح إلى إقامة مزاوجة بين أخلاقيات العمل وقيم المملكة العربية السعودية.
الحق يقال، إن برنامج تكييف القيم الإسلامية مع قيم السوق ليس بالأمر الجديد. فلطالما أشار العلماء إلى هذه النمط من “الليبرالية الجديدة المتدينة” التي تسعى إلى صياغة الحياة الإسلامية من جديد لتصبح أكثر انسجاماً مع الإنتاجية والعقلانية الاقتصادية. إن ما يميز هذا الاقتراب السعودي هو ارتباطه بالشخصية الوطنية، وهو النهج الذي افتتحته القيادة في الإمارات العربية المتحدة وتم تحليله في كتاب كالفرت جونز (Calvert Jones) “من بدو إلى برجوازيين: إعادة تشكيل المواطنين للعولمة” (Bedouins into Bourgeois: Remaking Citizens for Globalization). وبينما كانت القيادة الإماراتية تعمل في مساحة تم تشكيلها، جزئيًا على الأقل، من قبل دبي العالمية والرائدة في مجال الأعمال، فقد تم تشكيل الدولة والمجتمع السعودي بتركيبة مختلفة من الدين والدولة والاقتصاد. يجب أن تأخذ رؤية السعودية 2030 في الحسبان التقاليد الدينية التي أوجدت شكوكاً أكبر في التأثيرات الأجنبية، إضافة إلى تأثير الأبوية السائدة في عائلة آل سعود.
في عام 2017، كان تعليم ريادة الأعمال الجديد هذا واضحًا. انعقدت قمة القيم بتنظيم مؤسسة غير حكومية تابعة لمؤسسة محمد بن سلمان الخيرية (مسك الخيرية) ومركز الغد للقيم -الذي أعيدت تسميته بجمعية الغد للشباب – وحضرها الكثير من الشباب السعودي، وحظيت بتغطية واسعة في وسائل الإعلام. كانت الروح الوطنية جلية هنا، حيث تم تسليم كل من حضر كتابًا يحتوي على رسائل من قبل أناس بارزين يشكرون القوات السعودية التي تقاتل في اليمن. ولكن بدلاً من المناشدات القومية أو المقولات الإسلامية، غاص برنامج المساء في أعماق المصطلحات الإدارية والترويج للقيم المرتبطة بالإنتاجية، ومناقشة الحالة النفسية وراء إبقاء الموظفين متفاعلين. كانت الفعالية توحي انها اجتماع سنوي لشركة، ولكنها كانت موجهة إلى بلد بأكمله.
يحظى مشروع تنمية الشخصية هذا برعاية ملكية رفيعة المستوى. وقال مصدر مقرب من الديوان الملكي إن هذه هي قضية مهمة لخالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع الحالي وشقيق ولي العهد. ومن المثير للاهتمام أن نرى أفرادًا آخرين من العائلة المالكة يعززون هذه السردية الجديدة، ويقدمون أنفسهم كنماذج يحتذى بها لهذه القيم الوطنية الجديدة. في مقطع فيديو تم تداوله عبر موقعه الشخصي على تويتر، يستذكر الأمير وليد بن طلال حوالي 40 عامًا مرت على تأسيس مشروعه “المملكة القابضة”، الذي يستعرض فيه بداياته المتواضعة جدًا في مبنى صغير من ثلاث غرف. ويركّز في الفيديو على عمله الجاد ومبادرته، يقول بن طلال “لم يكن لدينا عطلة نهاية أسبوع، كنا نعمل كل يوم. وحتى لم يكن لدينا عطلة في رمضان أو للحج”. في روايته لوفد من الشبان والشابات السعوديين حول إخفاقاته المبكرة، وخسارته لرأس ماله بالكامل عدة مرات قبل أن يبدأ بجني الأرباح، يصور الأمير السعودي ثقافة المثابرة في العمل، وهو ما تشجعه البلاد.
الأبوية مقابل المبادرات الخاصة
لا يزال برنامج تعزيز الشخصية السعودية في المراحل الأولى من تنفيذه. لقد آن الأوان لتتكيف البلاد مع التحول الحتمي من الاحتفاء الوطني إلى مزيد من التقشف. ومع ذلك، وفي خضم جائحة فيروس كورونا، فإن المملكة العربية السعودية تناقض نفسها. وفي بعض الأحيان، يتم تعزيز الحوافز القديمة للدولة الريعية والقيم الأبوية الأكثر ارتباطًا بالملك. لقد أظهرت الأزمة الحالية ميزة وظيفة قطاع عام آمنة وتقلبات القطاع الخاص، على الرغم من الخطوات التي اتخذتها الدولة لحماية المواطنين العاملين هناك. حرص صناع الرأي السعوديون على تذكير السعوديين بروابطهم الخاصة مع الدولة وقيادتها “إن حكومة المملكة العربية السعودية أكثر حرصًا على مواطنيها من أي بلد في العالم، وذلك لتثبيت تعاليم الدين الإسلامي، وللارتباط الوثيق بين الراعي والرعية”.
تشير تصريحات وزير المالية إلى أن الدولة ستستمر في حماية السعوديين في القطاع العام. ولكنها تبعث برسالة مختلفة تمامًا حول إعطاء أهمية لرواد الأعمال الشباب والمبدعين، الذين تحتاجهم البلاد لتوسيع الاقتصاد غير النفطي. وفي الوقت الذي خصصت فيه الدولة رصيدًا محددًا للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة المتأثرة بالوباء، فإن تخفيضات الإنفاق الحكومي الأخرى سيترتب عليها قلة فرص العمل للخريجين الجدد، الذين يواجهون بالفعل صعوبات في العثور على عمل، كما هو واضح من حملات الهاشتاج على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل # تجمعالعاطلينالسعوديين، الذي استمر لأكثر من 200 يوم. وفي حين أن هناك حاجة أكثر من أي وقت مضى لعمل المزيد، إلا أن تلقين الشباب السعودي قيم العمل الشاق والطموح والتفاؤل في ظل الانكماش الاقتصادي الحاد قد يصعب تسويقه.