بايدن والدرس من الأخطاء التي ارتكبها الرؤساء السابقون تجاه السعودية وإيران وتركيا
إذا انتصر جو بايدن، فسيدخل البيت الأبيض بجرعة كبيرة من الشك وحتى النفور من منطقة أحبطت مشاريع أسلافه وآمالهم.

ويعتقد إيميل الحكيّم، محلل لشؤون الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أن المرشح الديمقراطي قد درس الأخطاء الاستراتيجية والأوهام التي ارتكبها جورج دبليو بوش، وسوء الإدارة الدبلوماسية في عهد باراك أوباما، والتشدد ونظريات المعاملات التي اتبعها دونالد ترامب.
وليس بايدن وافدا جديدا على سياسة الشرق الأوسط، فله تاريخ من السياسات التي تبناها كسيناتور ونائب رئيس. عارض التدخل الأميركي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي في 1991، وأيد غزو العراق في 2003، ثم دعا إلى سياسات مشكوك في نجاعتها لتحقيق الاستقرار في البلد، مثل تقسيمه ثم الترويج لخيار تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء في 2010.
ثم أصبح بايدن ضد الاشتباكات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط. ووقف ضد زيادة عدد الجنود في أفغانستان في 2009 – 2010، وعارض دعم الولايات المتحدة لتدخل الناتو في ليبيا في 2011، وكان معارضا لدعم الولايات المتحدة للثورة السورية. وتعهد بايدن الآن بـ”إنهاء الحروب التي لا نهاية لها”.
وربما قرر بايدن أنه لا يوجد مزيج صحيح من الدبلوماسية والقوة التي يمكن أن تساعد الولايات المتحدة على الإبحار في سياسات الشرق الأوسط المعقدة. نظرا للقضايا التي سيمنحها الأولوية القصوى، مثل التعامل مع أزمة فايروس كورونا وإعادة تحريك الاقتصاد الأميركي وإدارة المنافسة بين القوى العظمى.
ويعتقد الحكيم أنه من غير المرجح أن يولي بايدن اهتماما كبيرا للشرق الأوسط في قضايا لا تتعلق بالدبلوماسية النووية مع إيران. وبدلا من ذلك، يمكنه صياغة سياسة مبسطة من شأنها إرضاء الكثيرين في واشنطن، أين أصبح الكثيرون منهكين من قضايا الشرق الأوسط. ومن المفارقات أنه لن يخرج بهذا عن أسلوب الرئيس الحالي دونالد ترامب.
خرائط متغيرة
لسنوات، كافحت الولايات المتحدة للتكيف مع شرق أوسط غير منظم، وتعقّد خطوط الصدع والتنافس المتعددة في المنطقة قدرتها على المناورة مع استحالة حل النزاعات أو وضع أسس لحوكمة أفضل، لكن التكيف سيبقى صعبا مع التخفيض في عدد قوات الولايات المتحدة مقابل صعود روسيا والصين.
ولم تعد النماذج القديمة المعيبة مثل “المؤيدة لإيران والمناهضة لها” أو “المعتدلين والمتطرفين” تعمل كمبادئ منظمة لسياسة الولايات المتحدة، إذ لطخت الولايات المتحدة نفسها سجلها، وتواجه اتهامات بالتناقض والنفاق.
ومما يثير القلق بالنسبة لواشنطن، أن حلفاءها التقليديين الأربعة في المنطقة وهم إسرائيل ومصر وتركيا والسعودية يعانون من ضعف في المنافسة أو هم على خلاف مع الاستراتيجية الأميركية، فقد أنهت إسرائيل أي احتمال لقيام دولة فلسطينية. وتنأى مصر بنفسها عن الولايات المتحدة، وتحتضن روسيا، بينما تبقى تركيا حريصة على تشكيل شؤون جيرانها بغض النظر عن مصالح الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
وتخوض السعودية والإمارات منافسة إقليمية مع تركيا عبر عدة دول، وتتخطى حدتها الأزمة السعودية الإيرانية. وأدى الخلاف بين السعودية والإمارات وقطر إلى إحباط صانعي السياسة الأميركيين وإعاقة الجهود المبذولة لتحقيق الأمن التعاوني.
واليوم، ينهار النظام الذي بنته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ ثمانينات القرن الماضي، وليست واشنطن مستعدة لاستثمار السياسات والموارد العسكرية لدعمه، وقد يعتمد بايدن، مثل ترامب، على العلاقات الثنائية لمتابعة مصالح محددة بدلا من الاستثمار في الأمن الإقليمي.
السعودية وإيران
بالنسبة للسعودية، وجه بايدن إليها، قبل حملته وأثناءها، أقسى الأوصاف، وكان البلد الخليجي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، اللذان تقبلا إدارة ترامب، واجها انتقادات مستمرة من الحزب الديمقراطي.
والقضية التي تشغل البال في السعودية هي كيف سيتعامل بايدن مع صواريخ طهران الباليستية ودعمها لقوى إقليمية تعمل لحسابها في أي محادثات لإحياء الاتفاق النووي الدولي مع إيران الذي انسحبت منه واشنطن في 2018. وكانت الرياض قد أيدت بشدة حملة الضغوط القصوى التي مارسها ترامب على طهران.
وفي حين أن السعودية وحلفاءها الخليجيين يفضلون إدارة ترامب التي منحت الأولوية للصفقات المربحة بدلا من قضايا حقوق الإنسان، إذ يعتقد الكثير من الدبلوماسيين أن فوز بايدن لن يقلب تحالفات قائمة منذ عشرات السنين رأسا على عقب، غير أنهم قالوا إن بايدن ربما يقرن الدعم الأميركي بشروط أصعب.
والنتيجة المنطقية هي مطالبة العديد من الدوائر الأميركية بأن تخفض بلادهم مبيعات الأسلحة إلى السعودية أو تمنعها، فقد سهلت إدارة ترامب مبيعات الأسلحة ضد الكونغرس. لكن التوقعات في واشنطن هي أن تعليق مبيعات الأسلحة وسحب الدعم المادي والاستخباراتي الأميركي للحملة في اليمن سيجبرانها على التوقف.
ومع ذلك، لا يتوافق هذا بالضرورة مع التفكير الجاد في كيفية تحقيق الاستقرار في اليمن. فغالبا ما يحجب التركيز على المملكة العربية السعودية دوافع الصراع الأخرى. لكن إعادة التقييم لن تكون مجانية لواشنطن، فلا تزال السعودية الدولة العربية الأكثر نفوذا، وستواصل الفرص الاقتصادية جذب الشركات الأميركية الكبرى والمستثمرين.
وعلى رأس أجندة بايدن في الشرق الأوسط، تبرز الحاجة إلى تحفيز الدبلوماسية مع إيران، فقد دافع المرشح الديمقراطي عن الاتفاق النووي المبرم في 2015 مع طهران وأعرب عن أسفه لانسحاب إدارة ترامب منه، وبالتالي فشلت استراتيجية الرئيس السابق باراك أوباما.
ووعد بايدن بأن تنضم الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي إذا عادت إيران إلى الامتثال له. وسيجد دعما لموقفه من حلفائه الأوروبيين، وروسيا والصين وسيكون نفوذه كبيرا. ولدى إيران أسباب اقتصادية مقنعة للموافقة على مفاوضات جديدة.
وإذا كان بايدن يريد أن يبدو صارما، فيمكن أن يقترح تخفيفا إضافيا للعقوبات مقابل صفقة تتضمن المزيد من القيود مع أفق أوسع. أو إذا كان يميل إلى إظهار عدوله عن موقف ترامب، فيمكنه تمديد تخفيف العقوبات على الفور كبادرة حسن نية.
وفي حين سيكون حريصا على عكس ترامب الذي تسبب ببعض الأضرار، سيتعين عليه تجنب تكرار بعض أخطاء أوباما الدبلوماسية، من خلال زيادة التنسيق مع الشركاء الإقليميين لضمان عدم تقويض مشاركته مع إيران، ومن خلال التطرق إلى أنشطة إيران الإقليمية وبرنامج الصواريخ.
لكن بايدن سيواجه إيران مختلفة عن تلك التي تعامل معها أوباما، فقد أدى فشل الاتفاق النووي إلى تلطيخ سمعة من تفاوض عليه. وتقترب البلاد من حقبة التغيير السياسي، إذ يبدو الحرس الثوري في طريقه للصعود ويستعد علي خامنئي لخلافته. وقد تكون طهران أكثر تشددا مما كانت عليه في الماضي وتفضل القبول بـ”الأقل مقابل الأقل” بدلا من “المزيد مقابل المزيد”.
الواقعية السياسية
تعدّ تركيا مصدر قلق متزايد لواشنطن رغم أنها كانت ذات يوم حليفا موثوقا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونموذجا لما تسمى بـ”الديمقراطية الإسلامية الناجحة”، لكنها اتبعت سياسة خارجية عدوانية وتراجعت سياسيا خلال السنوات العشر الماضية.
واستفاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من سياسات ترامب ونفذ عمليات في سوريا ضد الأكراد، وأدخل بلاده في الصراع الليبي، واستعرض قوته في شرق البحر المتوسط.
وكان بايدن من أشد منتقدي أردوغان ووصفه العام الماضي بأنه “مستبد”، وقال إن الولايات المتحدة يجب أن تتخذ “نهجا مختلفا تجاهه الآن، مما يوضح أننا ندعم قيادة المعارضة. عليه أن يدفع الثمن”.
ويبدو أن أسباب استياء واشنطن كثيرة ويأتي على رأسها الشراء التركي لنظام الدفاع الجوي الروسي أس-400، وهي خطوة ساءَت واشنطن ويمكن أن تؤدي إلى عقوبات أميركية.
وقوبلت الهجمات التركية على الميليشيات الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا بالغضب. كما يُنظر إلى دورة التعاون التركي الروسي والمنافسة بينهما عبر الشرق الأوسط على أنها ضارة بمصالح الناتو والولايات المتحدة.
ومهما كانت الولايات المتحدة مستاءة من أردوغان، لا يمكن التخلص من تركيا، ولا يمكن طردها من الناتو. وتعتقد الولايات المتحدة، من بين دول أخرى، في أي حال أن طرد تركيا لن يؤدي إلا إلى التقارب مع روسيا.
وبينما يعتقد الكثيرون في أوساط بايدن أن التواصل من خلال العلاقات الثنائية وحلف الناتو سيكون أفضل نهج لترويض تركيا حتى يخرج أردوغان من المشهد السياسي.
وبعد أربع سنوات من مغازلة ترامب للحكام المستبدين أو تجاهله لهم، تحدث بايدن عن الحاجة إلى حماية الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان. وتعهد بأن يكون “التزام أميركا بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية، حتى مع أقرب شركائنا الأمنيين”.
ويقول الحيكم إن المنطقة ستشهد اختبار هذه اللغة على أرض الواقع، الذي يشهد إضعاف التعددية، وتكثيف سياسات القوة، وتآكل قوة الولايات المتحدة.
ومهما كان شعار “إنهاء الحروب التي لا نهاية لها” جذابا، يعِدُ بايدن نفسه بمواصلة عمليات مكافحة الإرهاب في أفغانستان، والحفاظ على الوجود العسكري في العراق ودعم الأكراد.
كما ستستمر العلاقات الدفاعية مع دول الخليج، حتى لو قلصت الولايات المتحدة من وجودها العسكري لنشر جنودها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وكما تظهر الاتفاقات بين إسرائيل والبحرين والإمارات، ستكون الولايات المتحدة على استعداد لإعطاء الأولوية للأمن الإقليمي على التحول المحلي.
وفي ضوء ذلك سوف يكون بايدن مقيدا بالتاريخ أيضا، فقد ترك العراق في 2011، وهي خطوة لعب دورا أساسيا في هندستها. وكان يُنظر إليها في ذلك الوقت على أنها ناجحة، إلى أن أدى ظهور تنظيم داعش إلى جرّ الولايات المتحدة إلى البلاد مرة أخرى واحتدام المنافسة مع إيران. وهذا هو السبب الذي يجعل الانسحاب الكامل من الشرق الأوسط غير مرجح.