هل يستطيع الرئيس الإيراني إنقاذ اقتصاد البلاد وتنفيذ وعوده السخيّة؟
يقول المحافظون إن الاقتصاد سيبدأ في النمو تحت الإدارة الجديدة، إلا أنه يصعب حتى الآن تحديد نموذج متماسك أو مجموعة من الأفكار التي تشرح كيف سيحدث ذلك.
ميدل ايست نيوز: يُراهن الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي على إقالة الاقتصاد الإيراني من عثرته، لتكون ورقته الرابحة، خاصة في ظل أمله في رفع العقوبات الأمريكية، ولكن الرجل يبدو أنه أفرط في الوعود لشعبه في هذا السياق.
واعتبر كثيرون وصول إبراهيم رئيسي إلى رئاسة البلاد في 5 أغسطس/آب بأنها المرةَ الأولى التي تدير فيها البلاد إدارةٌ ثورية حقيقية، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
بطبيعة الحال، تتجاهل هذه الرواية فترة إدارة الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، وهو زعيم لطالما صرَّح بعدائه للغرب، وكان مسؤولاً عن إدارة البلاد بدعمٍ كامل من البرلمان ومراكز القوى الأخرى في إيران من عام 2005 إلى عام 2013.
وربما يرجع هذا التجاهل إلى عدم نجاح التجربة على النحو المرجو، مع أن الظروف كانت أفضل بكثير؛ إذ لم تكن البلاد خاضعة لعقوبات مشددة كما هو الحال الآن، وكانت خزائن البلاد ممتلئة بفضل ارتفاع أسعار النفط في ذلك الوقت، وكانت معدلات التضخم مقبولة، ولم تكن خدمات الكهرباء والماء تدهورت لدرجة إثارة احتجاجات في الشوارع. وبالطبع، لم تكن هناك جائحة، ولم تكن جارة إيران من الشرق، أفغانستان، تضطرم بالاضطرابات الداخلية.
يدرك المحافظون الإيرانيون أن الظروف أسوأ بكثير هذه المرة، فجائحة كورونا تشهد خامس موجاتها وأكثرها فتكاً، والأسعار ترتفع بمعدل سنوي بلغ 40%، والحكومة عاجزة عن مواجهة التضخم في ظل العجز الهائل للميزانية، ناهيك بإخراج الاقتصاد من ركود مستمر منذ عشرة أعوام. والأدهى من ذلك، استمرار حملة الضغط الأقصى التي فرضها ترامب وتابعها بايدن في فرض تداعيات سلبية على مستويات معيشة المواطنين الإيرانيين العاديين.
ينبع ذلك التفاؤل المزعوم في تجاوز الأزمة الاقتصادية من اعتقاد بأنها في جزئها الأكبر ناشئة عن السياسات الغربية المضلّة التي انتهجتها الإدارات السابقة التي قادها سياسيون إصلاحيون ومعتدلون.
في المقابل، يقول المحافظون إن الاقتصاد سيبدأ في النمو تحت الإدارة الجديدة، إلا أنه يصعب حتى الآن تحديد نموذج متماسك أو مجموعة من الأفكار التي تشرح كيف سيحدث ذلك.
يلقي العديد من المحافظين باللوم على الاتفاق النووي لعام 2015 (المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة) في مشكلات إيران الاقتصادية، لكن معظم الاقتصاديين يذهبون إلى أن إحياء هذه الاتفاقية وما تتيحه من تيسيرات اقتصادية ينبغي أن يكون قاعدة الانطلاق لبرنامج رئيسي الاقتصادي.
يقول تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية إن الولايات المتحدة صعّدت الضغط عام 2018، وظلّت تترقّب منذ ذلك الحين مؤشرات الانهيار الاقتصادي في إيران. لكن عدداً من أهم قادة إيران كانوا يترقّبون مجموعةً أخرى من المؤشرات: التي تقول إنّ البلاد ستخرج من هذه الأزمة باقتصادٍ أكثر مقاومة للضغط الخارجي وبالتالي سيصير معزولاً عن العقوبات الأمريكية المستقبلية.
ويُجادل فريق من المسؤولين الإيرانيين بأنّ العقوبات لو حقّقت شيئاً فهو أنّها ساعدت إيران في تقليل اعتمادها على النفط والغرب. وهذا هو مفهوم “اقتصاد المقاومة” الذي صاغه المرشد الأعلى للمرة الأولى عام 2014، وروّج له منذ ذلك الحين وهو يعتقد أنّه سيتحقّق دون شك- حتى لو استغرق بعض الوقت.
فهناك فريقٌ في إيران- يشمل المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي- يُقدّر التقنيات المتقدمة والتكامل العالمي، ولكنّه يسعى لإثبات أنّ إيران تستطيع تحقيق تلك الأشياء دون الحاجة إلى الانصياع للغرب.
وفي رؤية متماشية مع موقف المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، أكَّد رئيسي أن رفع العقوبات أولوية قصوى لإدارته.
وتضمنت قائمة المرشحين للمناصب الوزارية التي قدمها مؤخراً إلى البرلمان، حسين أمير عبداللهيان، لمنصب وزير الخارجية، وهو ما يُنظر إليه في طهران على أنه مؤشر جيد في سبيل السعي إلى اتفاق مع القوى الغربية.
وفي حين أن أمير عبداللهيان يفتقر إلى معرفة ظريف بفرق التفاوض ومهاراته اللغوية المطلوبة، فإنه يكاد يكون من المؤكد أنه سيحظى بدعمٍ أكبر من سلفه من المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني.
المكاسب من إحياء الاتفاق النووي ستكون فورية ومهمة: وأبرزها، تفكيك التجميد المفروض على نحو 50 إلى 100 مليار دولار من الأصول الإيرانية في جميع أنحاء العالم، والسماح لإيران بتصدير كميات أكبر من النفط. ويُتوقع أن تقطع هذه الخطوات شوطاً طويلاً نحو سد العجز الهائل في ميزانية هذه السنة المالية (2021-2022)، والتي يُتوقع أن تبلغ 38% من إجمالي النفقات (5233 تريليون ريال إيراني، أي ما يعادل نحو 45 مليار دولار أمريكي). ويزيد هذا المسار أهميةً واقع أن الحكومة لا تستطيع الاقتراض من الخارج، وأن الاقتراض المحلي شديد التكلفة بسبب ارتفاع التضخم.
بعد هذا العام، يُتوقع أن يستفيد الاقتصاد الإيراني استفادة كبيرة من فتح المجال أمامه للوصول إلى النظام المالي العالمي، وهو ما تحظره العقوبات الأمريكية حالياً. وكان انهيار قيمة الريال تحت ضغط العقوبات أدَّى إلى خفض الأجور الحقيقية، ولكنه في الوقت ذاته أدى إلى تعزيز الإنتاج المحلي، لا سيما في مجال التصنيع.
فوفقاً للبنك المركزي الإيراني، نما التصنيع بنسبة 8.1% العام الماضي، فيما نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.6%.
كان النمو في العام الماضي مدفوعاً بزيادة صادرات النفط وسط التوقعات المتفائلة في النصف الثاني من العام بأن انتخاب بايدن قد يُفضي إلى إنهاء العقوبات أو تخفيفها، لكن هذا التفاؤل قد لا يستمر إذا وصلت المفاوضات الحالية إلى طريق مسدود.
لا ينظر المحافظون الإيرانيون إلى مستويات المعيشة لتأكيد رؤيتهم، بل إلى أداء الاقتصاد بشكلٍ عام؛ إذ حقّقت البلاد نمواً اقتصادياً إيجابياً العام الماضي.
ولا عجب في أنّ قطاع النفط الإيراني كان الأكثر تضرراً من العقوبات الأمريكية.
لكن فكرة اقتصاد المقاومة التي يتبناها بعض المسؤولين الإيرانيين، مبنيةٌ في الأساس على التخلّص من اعتماد البلاد على النفط. فقبل ثلاثة عقود، كان النفط يُمثّل أكثر من 50% من إجمالي الناتج المحلي الإيراني. أما في العام الماضي، فقد تراجعت حصة النفط إلى 15% فقط. في حين نجحت بقية القطاعات في الحفاظ على ثبات معدلات الإنتاج والتوظيف أثناء العقوبات.
كما تحسّنت الصناعة؛ حيث أدّت عقوبات ترامب إلى خفض قيمة العملة بشكلٍ كبير، مما زاد صعوبة الاستيراد. وبالتالي تدخّلت الصناعة المحلي لسد الفجوة، وزيادة الإنتاج والتوظيف والمبيعات المحلية.
وأعادت قطاعاتٌ واسعة من الاقتصاد الإيراني تنظيم نفسها استجابةً للعقوبات الأمريكية، لتجد الكثير من المرونة في الاقتصاد المحلي الضخم للبلاد.
وتعمل الشركات الإيرانية بصورةٍ متزايدة على إنتاج أنواع البضائع التي كانت إيران تستوردها منذ فترةٍ طويلةٍ من الخارج، في حين تلجأ الشركات الأصغر والمتنامية إلى التوظيف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
هل يستمر هذا النمو؟
في الوقت الحالي، يحافظ الطلب المحلي المدعوم بإحلال الواردات المحلية على معدلات النمو في التصنيع.
لكن لكي يستمر هذا النمو، لا بد أن يتمكن المنتجون الإيرانيون من الوصول إلى الاقتصاد العالمي، حسب موقع Responsible Statecraft.
وهو ما سيتحقق إذا توصل المفاوضون في فيينا إلى اتفاق. ويُتوقع أن تؤدي الاتفاقية أيضاً إلى تعزيز الإنتاج الصناعي الذي يعتمد على استيراد السلع الوسيطة؛ إذ يتيح التبادل التجاري بالإضافة إلى زيادة النقد الأجنبي شراءَ المدخلات الوسيطة بطريقة أيسر.
على الرغم من تلك الاستفادة الكبيرة التي يُتوقع أن يعود بها الاتفاق في فيينا على الاقتصاد الإيراني وما يتيحه من سبلٍ لوفاء رئيسي بالوعود مفرطة التفاؤل لحملته بشأن توفير مليون وظيفة جديدة ومليون منزل جديد كل عام، فإن رئيسي قد يُرضيه أيضاً تكرار ما حدث العام الماضي، عندما أضاف الاقتصاد نحو 700 ألف وظيفة جديدة وحقق قدراً معتدلاً من النمو. وهذا على الأرجح هو الخطة الاحتياطية التي يفكر فيها فريق رئيسي الاقتصادي، في مقابل سيناريو انهيار الاقتصاد الإيراني الذي يتخيله خصوم إيران.
مع ذلك، فإن تكرار أداء العام الماضي سيعتمد على استقرار السياسات الاقتصادية للحكومة، إلا أن التعيينات المقترحة من رئيسي تشير إلى خروج حاد عن السياسات القائمة على حركة السوق التي اتبعها سلفه. وعدد غير قليل من هؤلاء المرشحين خدموا في عهد أحمدي نجاد، وعلى رأسهم فرهاد رهبر، كبير المستشارين الاقتصاديين لرئيسي، والذي ترأس منظمة الإدارة والتخطيط في فترة أحمدي نجاد الرئاسية الأولى، ويُتوقع الآن أن يتولى منصب نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاقتصادية.
من الجدير بالذكر، أن المحافظين والمتشددين عارضوا في الماضي سنَّ القوانين اللازمة لإخراج إيران من القائمة السوداء لـ“مجموعة العمل المالي” FATF، وهي هيئة مراقبة دولية لمكافحة غسل الأموال. وجادل فريق رئيسي الاقتصادي بأن زيادة شفافية النظام المصرفي الإيراني أمرٌ مهم ولكن يجب انتظار رفع العقوبات، حتى لا ينشغل التجار الإيرانيون بالتهرب منها.
بيد أنه دون تلبية معايير مجموعة العمل المالي، حتى إن رُفعت العقوبات، فإن البنوك الأجنبية ستظل ممتنعة عن قبول التحويلات من البنوك الإيرانية ما دامت لا تعرف مصدرها.
يواجه الفريق الاقتصادي للحكومة الإيرانية الجديدة تحديات هائلة. وفي ظروف كهذه، فإن الوصول إلى أهداف عالية التفاؤل؛ مثل خلق مليون فرصة عمل وبناء مليون منزل جديد كل عام يتطلب أكثر من مجرد الحماس الثوري.
ومن ثم، يجدر بالرئيس الإيراني الجديد أن يستمع إلى الأصوات الأكثر واقعية في فريقه، ويوجه الاقتصاد نحو مسارات أكثر أماناً قبل اتخاذ الإجراءات التي أوصى بها أنصاره الأكثر ثورية