الخلافات الإيرانية الروسية حول النووي… من الغرف المغلقة إلى العلن
ظهرت الخلافات الإيرانية الروسية حول الملف النووي، تزامناً مع تصاعد الجدل بين إيران والولايات المتحدة، وكذلك الأطراف الأوروبية، بشأن استئناف مفاوضات فيينا.
ميدل ايست نيوز: بدأت خلال الآونة الأخيرة تطفو على السطح خلافات بين إيران وروسيا بشأن مفاوضات فيينا النووية، عكستها انتقادات علنية، وجهتها موسكو للسلوك الذي تتبعه طهران تجاه هذه المفاوضات. والانتقادات هي الأولى من نوعها منذ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عام 2018، الذي لطالما اصطفت موسكو بعده إلى جانب طهران في موقفها السياسي من الانسحاب الأميركي، مع انتقادها موقف واشنطن وإعادة فرض العقوبات على طهران.
وظهرت الخلافات الإيرانية الروسية حول الملف النووي، تزامناً مع تصاعد الجدل بين إيران والولايات المتحدة، وكذلك الأطراف الأوروبية، بشأن استئناف مفاوضات فيينا المتعثرة لإحياء الاتفاق النووي، والتي توقفت منذ يونيو/حزيران الماضي، بطلب من طهران، بحجة انتقال السلطة التنفيذية في البلاد، وتحذيرات واشنطن من اللجوء إلى “خيارات أخرى” والتهديدات الإسرائيلية باحتمال ضرب المنشآت النووية الإيرانية.
حسبما يستشف من التصريحات الروسية، فإن الخلافات الجديدة مع إيران، مدفوعة بثلاثة عوامل، الأول المماطلة الإيرانية في استئناف مباحثات فيينا، ما استدعى طلبات روسية متكررة، خلال الشهور الأخيرة، من طهران للعودة إلى التفاوض سريعاً، لكنها لم تبد تجاوباً معها، مكتفية بالقول على لسان وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان إنها ستعود “قريباً” إلى هذه المفاوضات.
غير أن هذه الوعود لم تعجب الجانب الروسي الذي عبّر عن امتعاضه منها، فانتقد المبعوث الروسي إلى مفاوضات فيينا ميخائيل أوليانوف علناً هذه التصريحات، متسائلاً في تغريدة: “(قريباً)، هل يعلم أحد ما ماذا تعني هذه الكلمة من الناحية العملية؟”.
والعامل الثاني، يعود إلى توجه طهران لإجراء مباحثات مع الاتحاد الأوروبي، والتي قرأتها موسكو على ما يبدو أنها محاولة إيرانية للالتفاف على بقية أطراف الاتفاق النووي، وخاصة روسيا. ففي السياق، سجلت الأخيرة ملاحظتها، وأعلنت على لسان أوليانوف أن “المباحثات في بروكسل لا يمكن أن تكون بديلاً عن مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي”.
أما عامل الخلاف الثالث فهو تأكيد إيران على ضرورة إعادة النظر في المفاوضات السابقة، فيما تعارض روسيا ذلك، إذ سرعان ما رفضت إعلان وزير الخارجية الإيراني، الأربعاء الماضي، أن بلاده لن تستأنف مفاوضات فيينا من “نقطة الانسداد” التي وصلت إليها في الجولة السادسة، ما يعني عدم رغبة إيران في استئناف المفاوضات من النقطة التي انتهت عندها الجولة السادسة في يونيو الماضي.
وقال المبعوث الروسي في هذه المفاوضات، في تغريدة: “نحن نحترم مواقفه (عبداللهيان) لكن في وجهة نظرنا لم يكن هناك أي انسداد في فيينا”، مضيفاً: “يجب أن نكون على اطلاع بالعناصر الجديدة المحتملة في موقف إيران”. كما أكد أوليانوف، في تغريدة في 19 سبتمبر/ أيلول الماضي، ضرورة استئناف المفاوضات من النقطة التي وصلت إليها بحلول 20 يونيو الماضي، وليس من الصفر.
وتذكر مواقف روسيا الأخيرة، بالفتور الذي حكم العلاقات الثنائية خلال ولاية الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، عندما تصاعد التوتر الغربي مع إيران على خلفية الموقف من ملفها النووي، حيث اصطفت روسيا إلى جانب القوى الغربية، وصوتت لصالح القرارات الدولية الستة التي أصدرها مجلس الأمن من 2005 إلى 2015 ضد إيران.
وحاول عبداللهيان، في مقابلة مع صحيفة “إيران” الرسمية نشرت أمس الأحد، توضيح مواقف بلاده من عملية التفاوض، مشيراً إلى أن ما يهم طهران هو “كيفية التفاوض والنقطة التي ستستأنف منها المفاوضات”، وأنه أبلغ الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) ومفوض السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بأن “أسهل طريقة للمفاوضات هي العودة من النقطة التي خرج منها (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب من الاتفاق النووي”.
كما أكد وجود قرار إيراني بعدم استئناف مفاوضات فيينا من “نقطة الانسداد”، موضحاً أن أحد القضايا التي وضعت المفاوضات السابقة أمام مأزق هو الرفض الأميركي لإجراء إيران صفقات بيع وشراء الأسلحة، بينما ينص القرار 2231 المكمل للاتفاق النووي على انتهاء الحظر التسليحي اعتباراً من 18 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
وحاول عبداللهيان رمي الكرة في ملعب واشنطن، قائلاً: “لدينا شكوك جادة حول نية الأميركيين” للعودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات، موضحاً أن النصوص التي كان يقدمها المبعوث الأميركي بشأن إيران روبرت مالي، خلال الجولات الست لمفاوضات فيينا، “أحدثت تعقيدات عملية تتعارض مع ما تزعمه أميركا علناً”، لافتاً إلى أنها تريد “الاحتفاظ بجزء مهم من العقوبات التي فرضها ترامب بحجة أن هذه العقوبات لا علاقة لها بالموضوع النووي، لكننا لن نقبل بذلك”.
وكشف أنه خلال اتصال هاتفي مع وزير الخارجية العُماني بدر بن حمد بن حمود البوسعيدي، أخيراً، طلب منه أن يبلغ الدول التي قطعت علاقاتها مع إيران، وبينها السعودية، مواقفنا بشأن المفاوضات النووية، وأن تُوضع هذه الدول في صورة المفاوضات، عازياً الهدف من ذلك إلى أن “تعلم هذه الدول أن الاتفاق النووي ليس ضد المنطقة وأي من الجيران”.
فيما أثارت الانتقادات الروسية الأخيرة حالة استغراب ودهشة في أوساط إيرانية، لكن الخبير الإيراني المتابع لتطورات الاتفاق النووي ومفاوضات فيينا، هادي خسروشاهين يرى أن هذه الدهشة مردها “خطأ معرفي في طهران حول طبيعة العلاقات مع موسكو، وكذلك بكين”، قائلاً إن “رؤية طهران (حول العلاقات) بعيدة عن حقائق السياسات الشرق أوسطية لروسيا”.
ويضيف خسرو شاهين، أنه “يجب تفسير النموذج السلوكي الروسي في الشرق الأوسط ضمن خانة أفعال قوة كبيرة غير مؤدلجة وبعقلية التاجر”، مشيراً إلى أن سياستها في هذه المنطقة تعتمد على مبدأ “المقايضة والأخذ والعطاء، ما يمنحها هامشا أوسع للمناورة لتوظيف الحد الأقصى من مميزاتها، وقدراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، على حساب القوى المنافسة مثل الولايات المتحدة والغرب. فيسمح هذا الوضع لروسيا بإقامة علاقات جيدة مع مختلف المتنافسين الإقليميين في آن واحد، أي إيران والسعودية وإسرائيل”.
لكن هذه السياسة الروسية الشرق أوسطية اصطدمت أخيراً بالسياسات الإيرانية الرامية إلى تعزيز القدرات والأوراق النووية، والاقتراب من نقطة “الاختراق النووي” (وهي الفترة الزمنية التي تستطيع فيها أي دولة أن تخصب ما يكفي من اليورانيوم لصناعة السلاح النووي)، كما يقول خسروشاهين. ويؤكد الخبير الإيراني أن “روسيا بحاجة إلى عودة إيران إلى مفاوضات فيينا بشكل أسرع، لأن اقتراب إيران من الاختراق النووي وتجاوزه هذا الحد، يحدث خللاً أساسياً في العلاقات الروسية المبنية على مبدأ الأخذ والعطاء، ما من شأنه أن يمنع إقامة علاقات ذات مغزى مع طهران بسبب الضغوط الإقليمية”.
وعليه، انتقلت روسيا من ضغوطها الخفية على طهران، بغية عودتها إلى طاولة التفاوض، إلى اتخاذ مواقف دبلوماسية معلنة، حسب خسروشاهين، الذي توقع عودة الفتور إلى العلاقات الإيرانية الروسية كما كان في عهد أحمدي نجاد، “إذا لم يحصل تقدم خلال مفاوضات فيينا بعد استئنافها في نوفمبر/تشرين الثاني” الحالي.
ويلفت الخبير الإيراني إلى أن “موسكو، إن لم تكن أكثر حماسة من واشنطن، فإنها أقله تسعى، بنفس الدرجة، إلى حل القضية النووية وعقد صفقة في هذا المجال”، قائلاً إن من أسباب مواقفها الأخيرة أيضاً “الضغوط الإسرائيلية المكثفة، وربما ضغوط أطراف عربية أيضاً وراء الكواليس”.
وواجهت الأطراف الغربية قرار إيران تحويل مسألة العودة إلى المفاوضات لورقة ضغط بضغوط دبلوماسية وسياسية، مع طرح سيناريو “خطة بي” في الإعلام الغربي، كما يقول خسروشاهين، الذي يوضح أن إيران بعدها “اتخذت سياسة وسطٍ لخفض الضغوط، من دون منح امتياز التفاوض لدولة بعينها، فقد دخلت في مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل، باعتباره الطرف الثالث الذي لا يتجاوز دوره حد الوساطة، رافضة التفاوض مع أي من الأطراف الأخرى، لا مع الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) ولا مع أميركا ولا حتى مع المبعوث الروسي في فيينا أوليانوف”.
وعلى وقع الخلافات الأخيرة مع روسيا، توجه نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، علي باقري كني، الخميس الماضي، إلى موسكو، عقب مباحثاته في بروكسل، وأجرى حواراً مع المبعوث الروسي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، بشأن “آليات استئناف مفاوضات فيينا لإلغاء العقوبات” الأميركية، وفق باقري نفسه، الذي وصف لقاءاته بأنها كانت “إيجابية ومثمرة”. لكن الزيارة حسب خسروشاهين تهدف إلى “إدارة الخلافات، وكذلك طمأنتها بشأن اعتزام إيران استئناف مفاوضات فيينا”.
المرحلة التي يعيشها الملف النووي الإيراني “حساسة للغاية، وهي تشبه حالة الانسداد التي كانت قبل 2015″، كما يقول المحلل الإيراني صلاح الدين خديو، الذي يؤكد أن هذا ما دفع جميع الأطراف إلى “إعادة تقييم الوضع الجديد وإعادة النظر في مواقفهم”.
ويوضح خديو أن “روسيا كبلد لديه مواقف أقرب إلى إيران نسبياً قلقة من وقوع تحول أساسي في موقف إيران وكذلك مستقبل الاتفاق النووي”، مضيفاً أن “موسكو من جهة ترفض امتلاك طهران السلاح النووي، ومن جهة أخرى تخشى من زيادة التوترات واحتمال تطورها إلى مواجهة صعبة وعسكرية”.
وعليه، أرادت روسيا من خلال انتقاداتها الأخيرة، وفق الخبير الإيراني، “تذكير إيران بأنه إذا تشددت أكثر في العودة إلى مفاوضات فيينا، وأرادت تغيير أجندتها بشكل أساسي، ستفقد الدعم الروسي، وهو ما يضعف موقفها”.
ويضيف خديو أن جل ما يريده الكرملين هو “إنهاء التوتر في الملف النووي الإيراني، من دون تحسين استراتيجي في علاقات إيران مع الغرب، ودخولها في مرحلة لا يمكن العودة عنها”، مستبعداً أن تحقق الحكومة الإيرانية الجديدة نجاحاً في انتهاج سياسة جديدة ومتابعة مشروعها الخاص من دون دعم نسبي من بكين وموسكو.
ويربط الخبير الإيراني إمكانية استمرار طهران في سياسة المماطلة بـ”مستوى التحمل في الداخل، ومتغيرات مثل الوضع الاقتصادي والانسجام الاجتماعي والأمن الداخلي والإقليمي”. ويقول إن الهدف من هذه المراوغة “هو تحويل التقدم النووي وبعض الإنجازات المرتبطة به خلال العام الأخير إلى ورقة رابحة في مواجهة مشروع الطرف الغربي توسيع الاتفاق النووي، بما يشمل القضايا الأخرى (الصاروخية والإقليمية)”.
غير أن هذا السلوك الإيراني، كما يقول خديو، يمكن أن يدفع الولايات المتحدة لـ”تشديد موقفها، ويتسبب أيضاً بإحباط الصين وروسيا وأوروبا، وفي الوقت نفسه بمخاطر مثل تفعيل آلية فض النزاع” لإعادة العقوبات الأممية وإعادة الملف إلى أروقة مجلس الأمن. ويخلص الخبير الإيراني إلى أن المماطلة الإيرانية “لها طبيعة تكتيكية وليست استراتيجية”، معرباً عن قناعته باستئناف المفاوضات المقبلة من النقطة التي توقفت عندها في فيينا “لكن خلالها يمكن أن تحدث تحولات غير استراتيجية وصفقات جديدة”.