من هو زرادشت وما الذي يؤمن به الزرادشتيون؟
رغم أنّ اسم الديانة على اسم زرادشت فهو ليس إلهاً، ولا يرفعه المنتسبون للزرادشتية إلى مرتبة الإله.
ميدل ايست نيوز: يعدُّ بعض الباحثين الديانة الزرادشتية أقدم الديانات التوحيدية التي لا زالت تُمارس في العالم، وعلى الرغم من أنّ تصنيفها ضمن “الديانات التوحيدية” يعد غريباً بعض الشيء لأغلبنا، إلا أنّ هذه هي الحقيقة. في هذا التقرير سنشرح لكم ما هي الديانة الزرادشتية وما هو الحال الذي آلت إليه في القرن الحادي والعشرين.
من هو زرادشت؟ ولماذا تنسب الديانة الزرادشتية إليه؟
يعتقد أتباع الزرادشتية أنّ هناك إلهاً واحداً في الكون هو “أهورامزدا”، وهو إله النور، إلهٌ قدير فوق إدراك ومعرفة البشر. وهو خالق كل شئ ومصدر الخير والنور والمحبّة في هذا الكون.
لكن هناك نقيض لهذا الإله القدير أيضاً، وهو “قوةٌ مطلقةٌ للشر”، تعدُّ مصدر جميع الشرور في العالم والكذب والموت يدعى “أهريمان” وهو بمثابة الشيطان.
لكنّ هذه الديانة أيضاً تسمّى الزرادشتية، على اسم شخص وليس على اسم الإله نفسه مثلاً، فلماذا؟
رغم أنّ اسم الديانة على اسم زرادشت فهو ليس إلهاً، ولا يرفعه المنتسبون للزرادشتية إلى مرتبة الإله. يعرّفونه فقط بأنّه رمزٌ نبويٌّ. لكن أيضاً لا يعرف الكثير عن زرادشت خارج النصوص الزرادشتية القديمة، والتي يُعتقد أن بداياتها كتبها زرادشت نفسه.
وقد واجه علماء الزرادشتية صعوبات من أجل أن يحددوا القرن، أو حتى الألفية التي ربما يكون قد عاش فيها. ولكنّ أبرز التخمينات أنّ هذه الديانة قد تأسّست ما بين عام 1000 و 1800 قبل الميلاد. وقد أصبحت الديانة الرسمية لممالك الفرس المتعاقبة، الأخمينيين والبارثيين والساسانيين، وحتّى دخول الإسلام ودخول الإيرانيين فيه.
ولكن، أين ظهر زرادشت بالضبط؟ ليس هناك مكانٌ دقيق يمكن تحديده بأنّه هو المكان الذي ظهر أو ولد فيه زرادشت. لكنّه بالتأكيد ظهر في المناطق التي كانت تشكّل مساحة تأثير الثقافة الفارسية.
وفقاً لبنديكت بيشل، طالب الدكتوراة بجامعة لندن في الدراسات الشرقية، فإنّ زرادشت قد عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد (أي بين عام 1000 و عام 2000 قبل الميلاد). وربما يكون قد عاش في منطقة بين وسط آسيا وما يُعرف الآن بأوزبكستان وطاجكستان.
وفي نصوص الجاثا، وهي مجموعة من التراتيل القديمة التي ألفها زرادشت، فقد انفصل زرادشت عن الديانات متعددة الآلهة التي سادت في زمانه في وسط آسيا، وأسّس الديانة الجديدة التي تعبد إلهاً واحداً هو “أهورامزدا”.
بناءً على تلك النصوص القديمة، فإنّ زرادشت قد تلقّى “إجابات/وحي” عن أسئلته عن طريق الصلاة، بينما وصفت بعض الكتابات اللاحقة أنّ زرادشت قد “صعد إلى السماء” وتحدّث مع الله مباشرةً. لكن بالطبع هذه النصوص ليست نصوصاً كتبها زرادشت بنفسه، وإنما نصوص كتبت بعده.
لكنّ أتباع الزرادشتية يؤكدون أيضاً أنّ زرادشت ما هو إلا “مؤسس العقيدة” وأنّه “بشر وليس تجلّياً إلهيّاً، كما يصفه كي إيه إيديولجي، وهو أحد الزرادشتيين الذي ينشر محتوى عن الزرادشتية في موقعه “التراث الزرادشتي“، فوفقاً له أيضاً فقد كان زرادشت مجرّد “روح حكيمة”.
ما الذي يؤمن به الزرادشتيون؟
الفكرة المحورية في الديانة الزرادشتية هي أنّ “أهورامزدا” هو التجلِّي الأكبر لإله للنور والقدرة والخير والمحبّة والجمال، بينما يقابله (وإن بدرجةٍ أقلّ) أنغرا ماينو، وهي روحٌ قوية للظلام والشر في هذا العام وتجليها هو “أهريمان”، وهو المقابل للشيطان.
بالنسبة للزرادشتيين، فجميع الحقائق تشكلها هاتان القوّتان الثنائيتان للنور والظلام، وكل إنسان لديه حرية اختيار طريقه. وربما بسبب هذا شاع عن تلك الديانة أنّها ديانة ثنوية (اي ثنائية الآلهة).
أمّا الطريق الأصلح في “العقيدة الزرادشتية”، فهو كالتالي: النية تكون مبنية على ثلاثة مثل عليا: طهارة الفكر، والكلمة الطيبة، والعمل الصالح.
وهناك ثمّة واجب أخلاقى على الزرادشتيين أن يقوموا به، وهو أن يعيشوا “حياة طيبة” وأن يتعاملوا مع الآخرين برحمة. وبالطبع يمكننا أن نتخيّل البقيّة: فالأفعال التي تقوم بها في الحياة، والخيارات التي تتخذها، هي التي ستحدد مصيرك وشكل الحياة التي ستحياها في الحياة الآخرة.
وليست فكرة أنهم متعددو الآلهة هي الفكرة الخاطئة الوحيدة عن الديانة الزرادشتية، فهناك أيضاً الفكرة الشهيرة أنّهم يعبدون النار. وهذا ليس حقيقياً، فعنصر النار في الديانة الزرادشتية تلعب دوراً بارزاً وأساسياً، وهي العنصر الأكثر قدسيةً في العناصر الأخرى المقدسة (الماء الهواء والتراب).
ففي كلّ طقس تضحية يجب أن تشتعل النار، بل وكانت النار تبقى مشتعلة طوال الوقت في المعابد الزرادشتية القديمة، فالنار هي أبرز تجلٍّ لأهورامزدا، وفي بعض الأدبيات الزرادشتية القديمة فإنّ أحد أول التعاليم عن القوة التحويلية الكبيرة للنار.
أمّا التقويم الزرادشتي التقليدي فيعتبر الشهر 30 يوماً، مع تأخير خمسة أو ستة أيام في نهاية العام لضبط الفارق مع السنة الشمسية. ويبدأ كل شهر باليوم الأول من الأسبوع الأول، والأعياد الزرادشتية لا تتغيّر، ويُحتفل بها في نفس التاريخ من كل عام.
وأكبر الأعياد الزرادشتية هو عيد النوروز، وهو عيد رأس السنة الذي يقام في أول أيام الربيع. أمّا رمزية العيد فتتعلّق بأنك يجب أن تبدأ الحياة من جديد، فتطهّر روحك ومنزلك. إذا كان هناك مشاحنات قديمة، فيفترض أن تحلها. للاطلاع أكثر على تفاصيل وعادات وتاريخ عيد النوروز، يمكنك قراءة هذه المادة.
وبرغم أن الزرادشتيين لا يملكون “كنائس” يُقمون فيها صلواتهم، فإنّ التجمُّعات الأكبر من الزرادشتيين تشيّد معبداً للعبادة؛ حيث يؤدي رجال الدين في الزرادشتية الذين يطلق عليهم “الموغان”، الشعائر الدينية باللغة الأوستية القديمة خلال الأيام الخاصة من السنة. وخلافاً لهذا، يصلي المؤمنون بهذه الديانة فُرادى وليس في معبد.
وكما ذكرنا، فإنّ النار هي العنصر الأكثر قدسية ومركزية في الديانة الزرادشتية، وتظهر بشكلٍ بارز في طقوس المعابد. ولقدسية النار فيتمّ إشعال شعلة أبدية في المعابد الزرادشتية طيلة 24 ساعة يومياً.
ويدفن الزرادشتيون موتاهم في أبراجٍ خاصة، سُميت باسم “أبراج الصمت“؛ حيث تُترك الجثث لتأكلها الطيور الجارحة؛ وبتلك الطريقة لا يتلوّث الهواء ولا الأرض ولا النار ولا الماء (العناصر المقدسة).
أمّا عظام الموتى فيتمّ تبييضها عن طريق الشمس، ثم توضع في حفرة. وحالياً، لا تمارَس هذه الشعائر إلا في الهند، حيث أغلب الزرادشتيين، وفي أغلب أنحاء العالم تعد هذه الممارسات غير قانونية أو غير ملائمة. وقد يدفن الزرادشتيون المعاصرون موتاهم في مقابر محمية عن طريق الخرسانة أو الحجارة.
أمّا الرمز الأكبر في الديانة الزرادشتية فهو فارافاهار، ويشبه صقراً كبيراً مجنحاً بجسم ورأس رجل ملتحٍ. وهذه الصورة تشتهر بأنها منحوتة على أطلال برسبوليس، العاصمة القديمة للإمبراطورية الأخمينية الزرادشتية في إيران، وتزين الآن المعابد والمقابر الزرادشتية.
الزرادشتية تعود من جديد إلى العراق دون الاعتراف بها كديانة رسمية
تأثير زرادشت والزرادشتية في الأدبيات اللاحقة
ربما كان أشهر تأثير لاسم زرادشت في العصر الحديث هو ذلك الكتاب الشهير للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه المعنون بـ”هكذا تكلّم زرادشت”، وفيها وضع نيتشه أفكاره وفلسفته على لسان النبي زرادشت.
ليس هذا وفقط، بل إنّ زرادشت قد أثّر أيضاً في الشاعر الألماني فون غوته وفي مسرحيته الشهيرة “فاوست”.
وبإلهامٍ من رواية نيتشه “هكذا تكلّم زرادشت” كتب المؤلف الموسيقي ريتشارد شتراوس، في القرن الـ 19، ملحمته الموسيقية التي تسمى أيضاً “هكذا تكلم زرادشت“. ولكن أيضاً لم يكن تأثير الزرادشتية مقتصراً على الفلاسفة والشعراء، فباحثون آخرون يعتقدون أنّها أثّرت في الكثير من أدبيات الديانة اليهودية والمسيحية.
ازدهرت الديانة الزرادشتية في العالم القديم، وكان لها تأثيرٌ قوي على مفكرين وكتاب ورجال دين يهود.
ويعود هذا وفقاً للباحثين إلى فترة النفي البابلي لليهود، عندما طردهم البابليون من فلسطين واتخذوهم عبيداً، فقد بقي الكثير منهم في أراضي الإمبراطورية البابلية، حيث تبادلوا أفكارهم الدينية مع الزرادشتية، وبالتالي تأثروا بها.
لاحقاً، وخلال الفترة التي تمتدّ بين القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، ظهرت ثنائيةٌ على غرار العقيدة الزرادشتية في الأدب اليهودي. وهنا دخل العديد من عناصر الديانة الزرادشتية إلى الديانة اليهودية، بما في ذلك زيادة أهمية شخصية الشيطان.
وبحسب الزرادشتية، تغادر الروح الجسد بعد 4 أيام من الموت. وعندما تعبر جسر تشينفات، أو جسر الحساب، تلقى الروح الطيبة ترحيباً من حوريةٍ جميلة وتُبشَّر بالجنة، بينما تُقيِّد الروح الخبيثة عجوزٌ شمطاءٌ وتُلقي بها في الجحيم.
حتى إن كلمة Paradise، التي تعني “الفردوس” فإنها مشتقة من الكلمة الإيرانية القديمة “بيري ديزا”، التي تُترجم تقريباً إلى “حديقة سماوية”، وفقاً لما ذكره موقع التراث الزرادشتي.
ماذا تبقّى من الزرادشتية اليوم؟
لم يتبقَّ من أتباع الديانة الزرادشتية في عصرنا الحالي سوى أقل من 140 ألف زرادشتي حول العالم.
كانت الزرادشتية قد وصلت إلى أوج قوّتها ونفوذها السياسي خلال عهد الإمبراطورية الساسانية (224 إلى 651) في إيران، وهي آخر إمبراطورية زرادشتية تحكم إيران قبل وصول الإسلام. حكم الساسانيون أجزاء كبيرة من البحر الأسود في الغرب ووصولاً إلى الهند شرقاً. وللقراءة بشكل معمّق أكثر عن الدولة الساسانية يمكنك قراءة هذه المادة.
وبالطبع فقدت الديانة الزرادشتية نفوذها السياسي والثقافي في وقت قصير جداً نتيجة الفتح الإسلامي لإيران في القرن السابع ميلادياً. ومنذ البداية، كان هناك حافز قوي أمام الزرادشتيين في إيران ليتحولوا إلى الإسلام.
اختار بعض الزرادشتيين الهجرة من بلاد فارس إلى الهند، وهي هجرة بدأت منذ أكثر من 1300 سنة. ولهذا أصبح في الهند زرادشتيون معروفون باسم “البارسيين”، وهي كلمة مشتقة من جذور كلمة فارسي.
ولا تزال جالية البارسيين في الهند تتفاخر بأنها أكبر تجمُّع للزرادشتيين في العالم. ويعيش حوالي 60 ألفاً إلى 70 ألف بارسي في الهند، وأغلبهم في جيوب الطبقة العليا في مومباي، برغم أن أعدادهم تأخذ في الانكماش. عادة لا يجعل الزرادشتيون الآخرين يتحوَّلون إلى ديانتهم. ومع ذلك، بدأوا مؤخراً في قبول من يختارون أن يصيروا زرادشتيين بمحض إرادتهم، لكن انخفاض معدلات الولادة يتسبب في نقص أعدادهم.