التداعيات الاقتصادية لـ”ممر زنغزور” قد تشعل حربا جديدة

في ركن من العالم يندر أن يتحدث عنه الناس في التاريخ الحديث، يمتد شريط من الأرض يبلغ طوله نحو 40 كيلومترا، وربما يصبح شرارة لحرب جديدة في سنة 2025.

ميدل ايست نيوز: في ركن من العالم يندر أن يتحدث عنه الناس في التاريخ الحديث، يمتد شريط من الأرض يبلغ طوله نحو 40 كيلومترا، وربما يصبح شرارة لحرب جديدة في سنة 2025.

عندما زار الرئيس بوتين أذربيجان في آب/أغسطس 2024 وحظيت زيارته بقدر كبير من الاهتمام، قال وزير خارجيته سيرغي لافروف لقناة إخبارية عن مسألة العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان، وهي نقطة محورية في الحرب الأخيرة بين البلدين: “روسيا تدعم إبرام معاهدة السلام وفتح طرق المواصلات في أقرب وقت ممكن. ومن المؤسف أن القيادة الأرمنية هي التي لم تلتزم الأحكام المتعلقة بالمواصلات عبر مقاطعة سيونيك في أرمينيا، مع أن الترتيبات ذات الصلة تحمل توقيع رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان. لذا نجد صعوبة في فهم ما يعنيه هذا الموقف”.

إن طريق “المواصلات عبر مقاطعة سيونيك في أرمينيا”، أو ما أطلقت عليه وسائل الإعلام في المنطقة وخارجها تسمية “ممر زنغزور” غالبا، يشكل حاليا أزمة ربما تؤدي الآثار السياسية والاقتصادية المترتبة عليه الى اندلاع حرب في الأشهر القليلة المقبلة.

شنت أذربيجان هجوما في سبتمبر/أيلول 2020 لاستعادة ناغورنو كاراباخ، وهو إقليم يسكنه نحو 120,000 أرمني، صار فعليا خارج نطاق سيطرة باكو منذ صراع دموي نشب بعد الاستقلال وتجمد في سنة 1994. انتهت تلك الحرب التي دامت 44 يوما بهزيمة الجانب الأرمني وتوقيع قادة أرمينيا وأذربيجان وروسيا بيانا ثلاثي الأطراف في نوفمبر/تشرين الثاني. وتألف البيان من تسع نقاط، معظمها تنازلات قدمتها أرمينيا لأذربيجان، وكانت النقطة الأخيرة منها: “تفتح جميع الروابط في مجالات الاقتصاد والنقل في المنطقة.

وتضمن جمهورية أرمينيا سلامة وسائل المواصلات بين المناطق الغربية لجمهورية أذربيجان وجمهورية نخجوان المتمتعة بالحكم الذاتي بغية تنظيم حركة المواطنين والمركبات والبضائع في كلا الاتجاهين من دون عوائق. وتمارس وحدات حرس الحدود التابعة لجهاز الأمن الاتحادي الروسي الرقابة على وسائل المواصلات”.

أهمية إستراتيجية للطريق من نخجوان إلى أذربيجان

تُعد جمهورية نخجوان المتمتعة بالحكم الذاتي إقليما منفصلا تابعا لأذربيجان وكان متصلا سابقا بباكو جوا أو بطرق تمر عبر إيران. لنخجوان حدود مع تركيا، وسيكون لأي طريق ممتد من نخجوان إلى أذربيجان مباشرة أهمية إستراتيجية بتوفيره وسيلة مواصلات مباشرة بين كل الدول التركية، من تركيا غرباً إلى قيرغيزستان وكازاخستان شرقاً.

ربما تفترض أذربيجان، بعد تحقيق انتصار ساحق في حرب الـ 44 يوما، أن هذا هو الوقت المناسب لانتزاع هذا الطريق الإستراتيجي في مقاطعة سيونيك الجنوبية في أرمينيا، الذي يسميه الأذربيجانيون “زنغزور”، بالقرب من الحدود مع إيران، حيث المسافة الأقصر بين نخجوان وأذربيجان نفسها. كانت تلك رؤيتهم لممر زنغزور بوصفه طريقا للعبور خارج الأراضي الإقليمية غير خاضع لسيطرة أرمينيا، مما يسمح للمسافرين والبضائع بالمرور بحرية من دون جمارك أو تدقيق أمني. غير أن البيان الثلاثي الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني لا يذكر إلا “جميع الروابط في مجالات الاقتصاد والنقل في المنطقة” من دون تسمية طريق محدد. وقد مضى ما يقرب من أربع سنوات من دون أن تسمح أرمينيا بأن يتحقق ممر زنغزور.

لكن صار من الواضح الآن، وعلى نحو متزايد، أن روسيا تريد جعل هذا الطريق حقيقة واقعة، في حين تقول إيران إن أي محاولة للقيام بذلك ستكون بمثابة “تجاوز للخط الأحمر”. ومن ثم فإن ممر زنغزور أكثر من مجرد طريق يربط عدة دول ذات جذور لغوية وثقافية متشابهة.

الحسابات الاقتصادية لثلاث قوى إقليمية

بداية، اعتبر إدراج “وحدات حرس الحدود التابعة لجهاز الأمن الاتحادي الروسي” بوصفها الجهة التي تراقب الطرق الجديدة المفتوحة في المنطقة بمثابة وسيلة للكرملين للحفاظ على قبضته على أرمينيا وأذربيجان. فقد كان انتهاء الصراع في ناغورنو كاراباخ على إثر حرب سنة 2020 يعني أن على موسكو إيجاد وسيلة أخرى للحفاظ على نفوذها في المنطقة. لكن روسيا لم تسعَ في البداية إلى استعجال أرمينيا لتوفير الاتصال البري. وبعد بضعة أعوام، تغيرت المعادلة عندما شنت روسيا هجومها على أوكرانيا وفرضت عليها العقوبات.

وأصبحت بحاجة الآن إلى طرق برية جديدة عبر دول صديقة. وقد كتب الكثير عن ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب الذي سيربط روسيا بالمحيط الهندي؛ وسيضيف ممر زنغزور إلى ذلك طريقا فعالا إلى البحر الأبيض المتوسط. وهناك أيضا احتمال الاتصال بالممر الأوسط مع الصين، مما يعزز خيارات روسيا في ما يتعلق بالطرق التي تمر عبرها الواردات التي تتجاوز العقوبات بمنشئها في الدول الصديقة، بالإضافة إلى الصادرات التي تذهب إلى تلك الدول للبيع أو “إعادة التغليف” قبل تسليمها إلى أوروبا.

تركيا تستفيد من الممر

تركيا هي القوة الإقليمية الأخرى التي ستستفيد من ممر زنغزور. فسيطرتها الفعلية على وصول هذا الطريق إلى البحر الأبيض المتوسط وربط نفسها بآسيا الوسطى والصين، يتيحان لها الارتقاء بمكانتها بوصفها قوة اقتصادية رائدة في المنطقة. ويشكل مجموع السلع التي تصدرها تركيا حاليا إلى أذربيجان ودول آسيا الوسطى 3 في المئة فقط من صادراتها الإجمالية. ومع أن هذا الرقم قد يبدو صغيرا، فإنه يوازي صادراتها إلى روسيا (2.3 في المئة) وقريب من صادراتها لبعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا (4.5 في المئة) وفرنسا (4.4 في المئة).

يمر الطريق الحالي بين تركيا وروسيا عبر جورجيا، ومع أنه أقصر من الانتقال عبر ممر زنغزور، فإنه غالبا ما يغلق في الشتاء لأنه يضيق عندما يمر عبر الأراضي الجبلية. وأي خفض في تكاليف النقل وأوقات الشحن يمكن أن يعزز هذه الأنشطة الاقتصادية كثيرا. وينتظر أيضا أن يساعد ممر زنغزور في تحقيق توازن أفضل في التنمية الاقتصادية داخل تركيا نفسها، حيث تنتج المناطق الشرقية 20 في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي مع أنها تؤوي نصف سكان البلاد تقريبا.

تواصل إيران معارضتها الشديدة لإنشاء ممر جديد في جنوب أرمينيا. وترى أن أي طرق خارج الأراضي الإقليمية بالقرب من حدودها مع أرمينيا، محاولة لإعادة تعريف الحدود في المنطقة، وتخشى أن يعزلها ذلك عن أرمينيا التي تعتبرها دولة صديقة.

وقد اتفقت أرمينيا وإيران أخيرا على زيادة حجم التبادل التجاري بينهما إلى 3 مليارات دولار أميركي، كما أن أرمينيا وجهة سياحية شهيرة للعائلات الإيرانية. لكن السماح بإنشاء ممر زنغزور تحت سيطرة روسية يمكن أن يضعف أيضا موقف إيران في ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب واتصالها بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي تنتمي إليه أرمينيا. ويبلغ حجم التجارة الحالي بين إيران والاتحاد الاقتصادي الأوراسي نحو 6 مليارات دولار، وينتظر أن يرتفع إلى نحو 20 مليار دولار خلال 5-7 سنوات مع بدء تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة في السنة الجارية.

لدى إيران أيضا خيار طريق الشحن إلى روسيا عبر أذربيجان، وهي ليست عضوا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. لكن طهران تضمر في الغالب شكوكا تجاه نيات باكو نظرا إلى علاقاتها الودية مع إسرائيل.

حل أرمينيا: “ملتقى طرق السلام”

ترفض أرمينيا بشدة ممر زنغزور خارج الأراضي الإقليمية بوصفه نهجا لفتح طرق المواصلات في المنطقة. وبدلا من ذلك، دعا رئيس الوزراء نيكول باشينيان إلى مشروع سماه “ملتقى طرق السلام”. وقال في خطاب له في أكتوبر/تشرين الأول 2023: “إن جوهر ذلك المشروع هو تطوير المواصلات بين أرمينيا وتركيا وأذربيجان وإيران من طريق تجديد الطرق والسكك الحديد والأنابيب والكابلات وخطوط الكهرباء وبنائها وتشغيلها”.

وأضاف أن “جميع البنى التحتية، بما في ذلك الطرق والسكك الحديد والطرق الجوية والأنابيب والكابلات وخطوط الكهرباء، تعمل تحت سيادة الدول التي تمر من خلالها وتخضع لولايتها”.

من الناحية السياسية، الفرق بين “ملتقى طرق السلام” وممر زنغزور واضح – الأول لن تخضع طرقه لرقابة حرس الحدود الروسي، وإنما تخضع حركة النقل للتدقيق الجمركي والأمني المعتاد. أما من ناحية الحسابات الاقتصادية، فإن استخدام الطرق القائمة حاليا يعني أن الطريق سيكون أطول من ممر زنغزور الافتراضي الذي يبلغ طوله 40 كيلومترا، مع احتمال إضافة تعريفات على المرور. وهكذا تبقى السياسة في المنطقة معقدة ويصعب التنبؤ بها، لكن يبدو أن إيران والولايات المتحدة تتفقان هذه المرة، إذ تدعمان “ملتقى طرق السلام” بوصفه حلا في المنطقة.

في غضون ذلك، فإن انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي أو مؤتمر الأطراف 29 الذي يحظى باهتمام كبير في باكو، والانتخابات الرئاسية الأميركية، وكلاهما مقرر في نوفمبر/تشرين الثاني، يعني قيام أذربيجان بلعبة الانتظار على أمل أن يؤدي الضغط الروسي إلى إذعان أرمينيا وتخليها عن السيطرة على حدودها الجنوبية.

وإذا لم يحدث ذلك، فإن الرئيس إلهام علييف قد أوضح بجلاء الخيارات التي يفكر فيها لتحقيق هذا الهدف الإستراتيجي. وقال في مقابلة له مع التلفزيون العام الأذربيجاني قبل سنوات عدة: “إن إنشاء ممر زنغزور يتوافق تماما مع مصالحنا الوطنية والتاريخية والمستقبلية. وسننفذ ممر زنغزور سواء رغبت أرمينيا في ذلك أم لم ترغب”.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
المجلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

8 − خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى