لماذا يمثل سقوط الأسد ضربة استراتيجية لروسيا؟

وجه الانهيار السريع لنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد ضربة قاسية لسمعة روسيا عالميا. ومثل خسارة استراتيجية لن تعوض بسهولة، ولا يقتصر تأثيرها على مصالح روسيا في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط.

ميدل ايست نيوز: وجه الانهيار السريع لنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد ضربة قاسية لسمعة روسيا عالميا. ومثل خسارة استراتيجية لن تعوض بسهولة، ولا يقتصر تأثيرها على مصالح روسيا في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط.

وعلى خلفية فشلها في الدفع بتسوية سياسية شاملة في سوريا، فقدت روسيا في 11 يوما جميع إنجازاتها العسكرية على الأرض منذ خريف 2015. وأخفقت جميع جهود روسيا العسكرية والدبلوماسية منذ 2011 في المحافظة على نظام الأسد، وربما تفقد معظم ما راكمته طوال عقود حكم “حزب البعث” منذ ستة عقود. ورغم تصريحات المسؤولين الروس المتكررة بأنها تدخلت لإنقاذ الدولة السورية وأنها لا تهتم بمصير الأسد، فإن النتيجة انتهت إلى الموافقة على منح بشار وعائلته اللجوء الإنساني حتى بعد رفضه التنحي وتسليم السلطة وصلاحياته مع ما يعنيه ذلك من مخاطر انهيار الدولة.

وانضم الأسد إلى حلفاء سابقين للكرملين أطاحت بهم ما تصفه موسكو “بالثورات الملونة” من أمثال الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يونوكوفيتش الذي أطيح به في 2014 في ثورة الميدان الأوروبي، ورئيس قرغيزستان الأسبق عسكر أكاييف الذي خلعه شعبه في 2005 نتيجة “ثورة الزنبق”. وبرزت أصوات من الصف الثاني في موسكو تبرر منح الأسد اللجوء على أنه دليل على عدم تخلي روسيا عن حلفائها، وطالب بعضهم بمنحه الجنسية الروسية، ولكن الأسد تمتع بحياة هادئة إلى الأبد في موسكو قد لا تختلف عن مخططات سابقة في حكم سوريا. وعلى عكس يونوكوفيتش وأكاييف، من غير المستبعد أن يواجه الأسد مصير إريش هونيكر رئيس ألمانيا الشرقية البائدة الذي لجأ في 1991 إلى السفارة التشيلية في موسكو بعد توحيد ألمانيا، وسُلم بعدها بعام لألمانيا لمحاكمته لدوره في انتهاكات حقوق الإنسان في بلاده.

وبعدما كانت الطرف المهيمن سياسيا في الشأن السوري بمبادراتها انطلاقا من منصة آستانه مع الأتراك والإيرانيين إلى مسار سوتشي واللجنة الدستورية وتعطيل مفاوضات جنيف، فقدت روسيا دورها القيادي. وتمنح التغيرات الجديدة على الأرض تركيا ميزة قيادة الدفة سياسيا وعسكريا في مسعى لرسم “سوريا الجديدة” حسب رؤيتها.

وبعد سنوات من تحول قاعدة حميميم إلى مركز يعادل في أهميته القصر الجمهوري بدمشق نظرا للدور السياسي والعسكري الذي لعبته في المصالحات والإشراف على تنفيذ التفاهمات بين الفاعلين العسكريين الخارجيين على الأرض السورية، أصبح مصير القاعدة الوحيدة لروسيا خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق، وشقيقتها البحرية في طرطوس على المحك. ورغم عدم تعرض “هيئة تحرير الشام” للقاعدتين حتى الآن فإن بقاءهما يبقى رهنا لإرادة الحكام الجدد من المسلحين وتركيا بالدرجة الأولى. ولا تقتصر خسائر روسيا على الجانبين السياسي والعسكري بل تتعداه إلى خسائر اقتصادية كبيرة.

خسائر مركبة

قالت وزارة الخارجية الروسية في بيان، يوم الأحد الماضي، أن الأسد ترك منصبه وغادر البلاد بعد أن أصدر أوامره بتسليم السلطة سلمياً.ولم تحدد الوزارة في البيان مكان الأسد حالياً، وأضافت أن روسيا لم تشارك في المحادثات بشأن رحيله.

وعلى عكس الوقائع المعروفة، وفي تغير لافت في الخطاب تجنب وصف المهاجمين بـ”الإرهابيين” ذكرت الوزارة أنه “نتيجة لمفاوضات بين بشار الأسد وعدد من المشاركين في الصراع المسلح في أراضي الجمهورية العربية السورية، قرر الاستقالة من الرئاسة ومغادرة البلاد، معطياً أوامر بالانتقال السلمي للسلطة”، وأوضحت أن “روسيا لم تشارك في تلك المفاوضات”، وحث البيان “كل الأطراف المعنية على الإحجام عن استخدام العنف وحل كل المشكلات المتعلقة بالحكم عبر الوسائل السياسية.

وذكر البيان: “القواعد العسكرية الروسية على الأراضي السورية هي في حال تأهب عال. حالياً لا تواجه سلامتها أي خطر جدي”. وفي وقت لاحق أكد الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن الرئيس فلاديمير بوتين هو من قرر منح الأسد حق اللجوء في روسيا.وذكر أنه من السابق لأوانه التحدث عن مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين، وأشار إلى أن “هذا كله سيكون مطروحاً للنقاش مع من سيكونون في السلطة في سوريا. وبالتأكيد نفعل كل شيء ضروري حالياً وكل ما بوسعنا، للتواصل مع من يمكنهم التعامل مع الأمور الأمنية. وبالطبع يتخذ جيشنا كل الإجراءات الاحترازية الضرورية”.

ومن المؤكد أن روسيا لم تكن ترغب في أن تنتهي الأمور كما حصل، وأن تفقد السيطرة على الورقة السورية بهذه السرعة والشكل الدرامي.

ومع سقوط الأسد تلقت روسيا عدة ضربات سياسية ومعنوية في آن واحد. ومنذ تدخلها الدبلوماسي والعسكري لاحقا سعت روسيا إلى إبراز نفسها على أنها حليف موثوق على عكس الولايات المتحدة والغرب. ومنح التدخل العسكري في 30 سبتمبر/أيلول 2015 حلفاء روسيا وأصدقاءها ثقة بأن موسكو يمكن أن تذهب إلى أقصى ما يمكن من أجل دعم حلفائها، وأنها طرف يمكن الاستعانة به في وجه مخططات الغرب. وازداد ثقل روسيا السياسي في منطقة الشرق الأوسط في شكل لافت وبرزت كمفاوض متوازن يضمن مصالح الأطراف المتصارعة في سوريا أو المهتمة بمصيرها. واستطاعت المحافظة ضمن حسابات صعبة ومعقدة بناء علاقات متوازنة مع إسرائيل وروسيا، وطورت علاقاتها مع البلدان العربية وتركيا في آن واحد.

وأجبر التدخل العسكري الروسي في سوريا الغرب على طي صفحة ضم شبه جزيرة القرم مؤقتا وعدم التصعيد أكثر معها. وساهم النجاح العسكري الروسي في بدء الحديث عن قطب جديد، وكان بداية فعلية لما تبلور لاحقا في السنتين الأخيرتين تحت اسم “الجنوب العالمي”.

وإضافة إلى الثقل السياسي شكلت سوريا ساحة مهمة لتجريب الأسلحة الروسية والدعاية لها. ومع تصدر مرتزقة “فاغنر” المشهد على الأرض في القتال البري وحماية مرافق النفط والغاز، توسع الوجود الروسي في ليبيا والسودان وعدة بلدان أفريقية لتصبح ضامنا أمنيا، وشريكا موثوقا بدلا من فرنسا وبلدان الغرب.

ورغم جميع التبريرات بأن سقوط الأسد جاء نتيجة عدم استعداد الجيش الروسي للقتال، وأن “الروس لن يكونوا سوريين أكثر من السوريين” على حد وصف الرئيس فلاديمير بوتين في أحد اللقاءات في 2015، وأن تركيز روسيا ينصب على أوكرانيا باعتبارها معركة من أجل بناء العالم الجديد متعدد الأقطاب، فإن سقوط الأسد يهدد المدّ الروسي في أفريقيا وأميركا اللاتينية وقد يصل إلى تراجع العلاقات مع بلدان آسيا الوسطى.

وحتى سقوط الأسد كان ينظر إلى روسيا على أن روسيا ضامن قوي للأمن في الدول المتحالفة معها، وحليف يعتمد عليه في محاربة الإرهاب. وازدادت الثقة بروسيا بعد ديسمبر/كانون الأول 2017، حين أعلن بوتين من قاعدة حميميم “النصر الباهر” في العملية العسكرية التي استمرت لمدة عامين في سوريا. قال حينها الرئيس الروسي إنه “إذا أعاد الإرهابيون رفع رؤوسهم، سنوجه لهم ضربات لم يروا مثلها من قبل”. لكن ما حدث خلال الأسبوع ونصف الأخير قبل سقوط نظام بشار الأسد كان بعيدا عن هذه الكلمات.

ويثير عدم رغبة أو قدرة روسيا على مساعدة الأسد تساؤلات مشروعة لدى حلفائها حول استمرار المراهنة عليها كحليف ضامن لاستقرار الحكم، خاصة وأن عددا من التصريحات الصادرة عن الكرملين والخارجية كان أقرب إلى تصريحات دولة غير من منخرطة في صراع من قبيل وصف الكرملين الهجوم على حلب بأنه اعتداء على سيادة سوريا، وإعرابه عن أمل في أن “تفرض السلطات السورية النظام في المنطقة وتعيد العمل بالنظام الدستوري”. أو تصريح المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا الذي جاء فيه: “نحن نعرب عن تضامننا مع القيادة السورية وشعبها في هذه الظروف الصعبة”.

ومما يهز ثقة حلفاء موسكو التصريحات التي نسبتها “بلومبرغ ” إلى مسؤولين مقربين من الكرملين، وفحواها أن روسيا لا تمتلك خطة لإنقاذ الأسد ولا ترى أي جدوى من محاولة ذلك طالما أن جيش الأسد يواصل الانسحاب من مواقعه.

ورغم أن روسيا لم تغرق في مستنقع أفغاني جديد كما حصل مع الاتحاد السوفياتي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، فإن ما حصل معها أقرب إلى سيناريو انسحاب بايدن من أفغانستان حين عادت طالبان إلى حكم البلاد بعد نحو عقدين من تدخل واشنطن و”الناتو”، وفي سوريا وإن تغيرت التسميات فإن روسيا والعالم يصنفان “هيئة تحرير الشام” على أنها منظمة إرهابية لكنهم سيكونون مضطرين للتعامل معها.

قد تفلح محاولات روسيا ضخ معلومات متباينة حول ما جرى في الأيام الأخيرة، وتحميل الأسد مسؤولية الانهيار، في إثبات عدم ضعف روسيا عسكريا وعدم إضافة إخفاق جديد للاستخبارات الروسية بشأن عدم توقع هجوم المعارضة والاستعداد له، بعدما أخطأت سابقا في توقعاتها بشأن نجاح هجوم سريع مباغت في احتلال كييف في عدة أيام وانهيار أوكرانيا، وكذلك عدم توقع تمرد “فاغنر” في صيف 2023.

يفتح سقوط الأسد على خسارة قاعدتيها في طرطوس وحميميم، وهناك أنباء منذ أيام عن تحركات وابتعاد السفن الروسية عن قاعدة طرطوس، ورحلات لطائرات شحن من المطار باتجاه روسيا، ورغم محدودية عدد الرحلات فإنها تعطي مؤشرا ربما لاستعداد روسيا لاخلاء القاعدتين في حال عدم التوافق مع الحكام الجدد، وعدم تقديم تنازلات لتركيا في ملفات سياسية واقتصادية أخرى.

وفي حال انسحاب روسيا من القاعدتين فإن تأثيرها السياسي والاقتصادي في سوريا سوف يضعف أكثر، والأهم فقدان مركزين راهن عليهما الكرملين كنقطة لوجستية للتوسع في أفريقيا التي برزت كأهم وجهات السياسة الخارجية الروسية في السنوات الأخيرة.

ومن المؤكد أن إخفاق روسيا في سوريا جاء نتيجة حتمية لعدم قدرتها على استكمال انتصاراتها العسكرية بالتوصل إلى حل سياسي وتحسين الأوضاع الاقتصادية. وبغض النظر عن الأسباب فقد فشلت روسيا في التوصل إلى حل سياسي. كما أخفقت روسيا في مبادراتها لإعادة الإعمار وتحسين الاقتصاد السوري عبر بوابات إعادة اللاجئين أو مشروعات التعافي المبكر.

وفيما يتحمل الأسد جزءا كبيرا من المسؤولية عن ذلك بسبب الفساد وغيره من الأسباب، من الواضح أن قدرات روسيا الاقتصادية لم تكن كافية لاستكمال مشروعها بانتصار في سوريا، ما قد ينعكس على نظرة الحلفاء مستقبلا لروسيا من حيث قدراتها الأمنية والاقتصادية.

من المؤكد بعد سقوط الأسد أن روسيا خسرت معظم نفوذها في شرق المتوسط، وليس واضحا كيف ستتأثر علاقاتها مع إيران، وتركيا، وكذلك مع إسرائيل والبلدان العربية. ولكن التأثير ربما ينسحب على أماكن أخرى. ومن أكثر التبريرات لعدم تدخل روسيا بقوة في أحداث سوريا الأخيرة هو التركيز على الانتصار في أوكرانيا، ومن المستبعد أن يؤثر ما حصل في سوريا سلبا على مجرى الحرب في أوكرانيا، لكن منح الأسد حق اللجوء أو منحه الجنسية الروسية أو حتى المحافظة على قاعدتي حميميم وطرطوس لن يدل على أندور روسيا العالمي قبل سقوط الأسد سيكون كما بعده.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
المجلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

6 + 7 =

زر الذهاب إلى الأعلى