تركيا والإمارات والسعودية.. كيف استغل المنافسون غياب إيران للهيمنة على المنطقة تجاريا؟
أغلقت معظم أبواب التجارة في إيران بعد أن طوقت بالعقوبات وحاصرها حظر أجنبي اقتصادي شبه كامل.

ميدل ايست نيوز: أغلقت معظم أبواب التجارة في إيران بعد أن طوقت بالعقوبات وحاصرها حظر أجنبي اقتصادي شبه كامل. مرور بسيط على المشهد طويل الأمد للتجارة الخارجية لإيران مقارنة بدول الإمارات والسعودية وتركيا، يظهر أن هذه الدول الثلاث في ظل غياب إيران قد هيمنت على الأسواق التصديرية الإقليمية والعالمية في مجالي السلع والخدمات.
لطالما ساهم موقع إيران الجيوسياسي الفريد في أن تلعب دورا بارزا في التجارة الدولية عبر التاريخ وهو دور يمكن رصده في الآثار التاريخية ورحلات التجار والمستكشفين الأجانب. ومع هذا، فقد شهدت التجارة الإيرانية في السنوات الأخيرة حالة من التراجع، بينما حققت دول مثل تركيا والإمارات والسعودية أرقامًا قياسية جديدة في الصادرات والواردات خلال العقد الماضي. فقد انخفضت صادرات السلع والخدمات الإيرانية في عام 2023 بنسبة 38% مقارنة بعام 2011، في حين زادت واردات إيران خلال هذه الفترة بنسبة لا تتجاوز 10%.
في المقابل، ارتفعت واردات تركيا بنسبة 50%، والسعودية بنسبة 48%، والإمارات بنسبة 123%. كما نمت صادرات تركيا بنسبة 85% والإمارات بنسبة 77%. هذه الأرقام تشير إلى أن الدول الثلاث تتقدم بسرعة في الساحة التجارية، قاطعة أشواط طويلة عن إيران، علما أن جميعها كانت تقريبًا في مستوى متقارب قبل 20 عامًا من حيث انطلاقها نحو تطوير التجارة.
تبلغ قيمة التجارة السعودية اليوم ثلاثة أضعاف نظيرتها الإيرانية، بينما تسجل تركيا 3.5 ضعف، والإمارات 5 أضعاف. هذا الواقع يعكس بوضوح الضرر الذي ألحقته السياسات المناهضة للتجارة الحرة إلى جانب العقوبات الدولية بالاقتصاد الإيراني.
فترة الازدهار التجاري
لفهم التحولات في التجارة الإيرانية، يمكن تقسيمها إلى فترتين:
- الفترة الأولى تمتد من نهاية الحرب الإيرانية-العراقية حتى بداية فترة عقوبات مجلس الأمن الدولي على الاقتصاد الإيراني.
- الفترة الثانية تبدأ مع فرض العقوبات حتى عام 2023، وهو آخر عام تتوفر فيه بيانات دقيقة عن التجارة.
وفقًا لبيانات البنك الدولي، بلغت صادرات إيران من السلع والخدمات عام 1988 نحو 9 مليارات دولار، بينما سجلت تركيا والسعودية في العام نفسه صادرات بقيمة 17 مليار دولار و27 مليار دولار على التوالي. ومنذ ذلك العام وحتى 2011، سجلت إيران نموًا سنويًا تقريبًا في الصادرات، لتصل إلى 157 مليار دولار. في المقابل، حققت السعودية والإمارات طفرات تصديرية، حيث زادت صادراتهما بين 2009 و2011 بنسبة 86% و57% على التوالي.
بنهاية 2011، كانت صادرات إيران أقل بـ 36 مليار دولار من صادرات تركيا، بينما بلغت صادرات السعودية 2.4 ضعف صادرات إيران (376 مليار دولار) والإمارات ضعفين (316 مليار دولار). أما الواردات، فكان الاتجاه مشابهًا؛ حيث سجلت إيران في عام 1988 واردات بقيمة 17.6 مليار دولار، بينما سجلت تركيا أقل من 16 مليار دولار. بحلول 2011، تجاوزت واردات تركيا 2.5 ضعف نظيرتها الإيرانية، حيث استوردت بقيمة 254 مليار دولار مقابل 102 مليار دولار لإيران. وفي العام ذاته، استوردت الإمارات والسعودية سلعا وخدمات بقيمة 216 مليار دولار و198 مليار دولار على التوالي.
تشير ذات البيانات إلى أنه حتى عام 2001، لم يكن هناك فارق كبير بين إيران والدول الثلاث في مستوى الواردات، حيث استوردت إيران 27 مليار دولار، فيما بلغ متوسط واردات تركيا والسعودية والإمارات 45 مليار دولار. لكن بعد هذا العام، تسارع نمو الواردات في الدول الثلاث، بينما استمرت إيران على نفس الوتيرة البطيئة.
التجارة في قبضة السياسة
بين عامي 1988 و2005، اعتمدت إيران سياسة تهدئة التوترات الدولية والتعاون مع الدول الأوروبية، ما ساعدها في تحقيق نمو اقتصادي مستدام وزيادة دورها في التجارة العالمية. لكن بعد فرض عقوبات مجلس الأمن الدولي، تغيرت الأوضاع بشكل جذري، حيث استغلت الدول المجاورة الفرصة لتعزيز حضورها في سلاسل القيمة العالمية وتوسيع تجارتها.
تشير بيانات البنك الدولي إلى أنه بين عامي 2011 و2023، لم تشهد صادرات إيران أي نمو، بل تراجعت بنحو 40%، إذ انخفضت من 157 مليار دولار عام 2011 إلى 98 مليار دولار عام 2023. يأتي هذا في وقت كان من المفترض أن تستفيد إيران من قوة عاملة شابة متزايدة، لكن بدلاً من ذلك، أدت السياسات الخاطئة إلى موجة هجرة واسعة، ما حرم الاقتصاد من فرصة التوسع.
في المقابل، واصلت تركيا والإمارات مسار نموها، حيث ارتفعت صادرات تركيا من 193 مليار دولار عام 2011 إلى 357 مليار دولار عام 2023، وقفزت صادرات الإمارات من 315 مليار دولار إلى 558 مليار دولار خلال الفترة ذاتها. هذا النجاح كان نتيجة خطط استراتيجية وضعها صانعو سياسات لديهم رؤية واقعية للتجارة الدولية.
أما في الواردات، فقد سجلت تركيا 386 مليار دولار عام 2022، بينما وصلت واردات الإمارات إلى 482 مليار دولار عام 2023. وفي المقابل، لم تتجاوز واردات إيران خلال الفترة 2011-2023 حاجز 140 مليار دولار، وظلت تتراوح بين 80 و110 مليارات دولار، رغم أن عدد سكانها زاد بمقدار 10 ملايين نسمة منذ 2011، ما أدى إلى تراجع مستوى الرفاهية.
أسباب تراجع التجارة الإيرانية
السؤال الجوهري هنا: لماذا تواجه إيران هذه الأزمة في التجارة؟ وللإجابة، يجب تحليل عاملين رئيسيين:
- غياب أولوية الاقتصاد في السياسة الإيرانية
على عكس إيران، جعلت تركيا والسعودية والإمارات الاقتصاد محور سياساتها، وفضلت هذه الدول بناء تحالفات مرنة قائمة على المصالح الاقتصادية بدلاً من الالتزامات الأيديولوجية الطويلة الأمد. على سبيل المثال، حين قررت السعودية تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة والتقرب من الصين وروسيا، فعلت ذلك وفقًا لمصالحها الوطنية دون أن تتأثر تجارتها.عندما يكون الاقتصاد هو المحور، يصبح الاستقرار والشفافية في صدارة الأولويات، وهو ما مكن الإمارات من جذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 166 مليار دولار بين عامي 2010 و2022، وسجلت رقماً قياسياً بلغ 22 مليار دولار عام 2022. - عدم استغلال المزايا الجغرافية
رغم امتلاكها لموقع استراتيجي، لم تستثمر إيران بشكل فعال في قطاع الخدمات اللوجستية والتجارية. في المقابل، استغلت الإمارات وتركيا هذا الأمر جيدًا. فبحسب منظمة التجارة العالمية، بلغت صادرات الإمارات من الخدمات في 2023 نحو 165 مليار دولار، وتركيا 100 مليار دولار، ما يمثل نحو 4% من إجمالي تجارة الخدمات عالميًا. وحدها الإمارات حققت 43 مليار دولار من تصدير خدمات النقل، وهو أكثر من إجمالي عائدات النفط الإيراني خلال العام الماضي. أما إيران، فلم تحقق سوى 0.2% من السوق العالمية في قطاع الخدمات.
في الختام، يعود ازدهار التجارة في تركيا والإمارات والسعودية إلى تراجع دور إيران في الاقتصاد العالمي. فمع تقييد صادرات النفط الإيراني، زادت حصة السعودية في السوق. ومع تجنب الدول استخدام إيران كممر ترانزيت، تحولت العوائد إلى تركيا والإمارات. وحتى في السياحة، فإن تراجع السياحة الوافدة إلى إيران جعل الدول الثلاث تستحوذ على الحصة الأكبر.