تركيا و”الدروس المستفادة” من حرب إسرائيل وإيران
على مدى عقود، نظرت النخبة العلمانية في تركيا إلى الثورة الإيرانية عام 1979 بوصفها درسا تحذيريا عميقا.

ميدل ايست نيوز: على مدى عقود، نظرت النخبة العلمانية في تركيا إلى الثورة الإيرانية عام 1979 بوصفها درسا تحذيريا عميقا.
فحين عاد زعيم الثورة الإيرانية آية الله الخميني ليعيد تشكيل مسار إيران ما بعد الشاه، ويغير مستقبلها ومصير المنطقة، كانت تركيا تتابع المشهد عن كثب. وقد رأت النخبة الحاكمة في أنقرة في حركتين داخليتين تهديدا وجوديا: الإسلام السياسي والنزعة الانفصالية الكردية. آنذاك، كما هو اليوم، تعارضت محاولات إيران لتصدير الإسلام السياسي عبر جماعات وحركات تدور في فلكها، متأثرة بأفكارها وأيديولوجيتها، مع تصور أنقرة لطبيعة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. ورغم توصيف الطرفين مرارا بأنهما “أعدقاء” (أصدقاء-أعداء)، فإن كليهما يدرك أن صراع الهيمنة الإقليمية بمعادلة صفرية ليس قابلا للاستمرار.
تنافست تركيا وإيران على النفوذ في العراق عقب حرب عام 2003، لا سيما في إقليم كردستان العراق، الذي شكل ساحة محورية شهدت اشتباكات غير مباشرة بين الطرفين عبر فصائل محلية، رغم تحالفهما الطويل ضد الحركات الانفصالية الكردية. وفي سوريا، دعمت الدولتان أطرافا متنازعة منذ اندلاع الثورة عام 2011. إذ وقفت تركيا إلى جانب الفصائل المسلحة المناهضة للنظام، خصوصا في إدلب، في حين دعمت طهران حليفها القديم بشار الأسد بلا تردد، وفسحت المجال أمام “حزب الله” لإثارة الفوضى والخراب بين المدنيين السوريين وفي البنى التحتية الخاضعة لسيطرة المعارضة. ويعيش في كل من تركيا وإيران عدد كبير من الأكراد، وقد وجهت أنقرة اتهامات متكررة لطهران بدعم الجماعات الكردية الانفصالية سرا ضدها. ورغم التوترات، تربط البلدين علاقات يصعب تفكيكها، من أبرزها صادرات الغاز الإيراني إلى تركيا، وحدود مشتركة تمتد بطول 560 كيلومترا (350 ميلا).
قد يبدو أن تركيا هي المستفيد الأكبر من الضربات التي وجهتها إسرائيل والولايات المتحدة إلى إيران خلال الشهر الماضي، بعدما تكبد خصماها الإقليميان خسائر فادحة في مواجهة عنيفة، تقول إيران إن حصيلتها تجاوزت ألف قتيل من جانبها، مقابل 28 قتيلا في إسرائيل جراء الصواريخ الإيرانية.
وقد تخطت العملية العسكرية والاستخباراتية التي نفذتها إسرائيل ضد إيران حدود المواجهة التقليدية، بما يعيد رسم قواعد الاشتباك في المنطقة بأسرها.
وبالنسبة لأنقرة، تنذر التداعيات بمخاطر جدية، فهي لا ترى مصلحة في إيران مفككة أو مهددة بانتفاضات داخلية تقودها جماعات كردية أو بلوشية أو أذرية، بما قد يترتب عليه من موجات لجوء واسعة هربا من النزاع، أو في التعامل مع نظام إيراني يزداد اضطرابا ويضاعف تمسكه بطموحاته النووية.
كذلك، كشف انخراط واشنطن في الصراع مع إيران لأنقرة أن الولايات المتحدة لا تتردد في اللجوء إلى العمل العسكري المباشر في الشرق الأوسط، لا سيما حين يتعلق الأمر بدعم إسرائيل. وقد عمق هذا الواقع من هواجس أنقرة الأمنية. فرغم عضويتها في حلف شمال الأطلسي وعلاقاتها الوثيقة بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، لا يزال القلق قائما من أن واشنطن لم تفشل فقط في كبح جماح التفرد العسكري الإسرائيلي في المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل إنها قد تنخرط بفعالية في خدمة مصالح تل أبيب الاستراتيجية.
من المرجح أن ترى أنقرة في اللحظة الراهنة فرصة استراتيجية لتعزيز قدراتها العسكرية الرادعة، مع تسليط الضوء على أهميتها الدبلوماسية والتجارية والجيوسياسية. فبدلا من الاكتفاء بجني المكاسب من الفوضى الإقليمية، سيعمل مخططو الدفاع الأتراك على دراسة الثغرات التي كشفتها الهجمات في منظومة الدفاع الجوي الإيرانية، إلى جانب تحليل الخطة التشغيلية للهجمات الانتقامية على إسرائيل، بما في ذلك ما نجح منها، وما أخفق، وما تسبب في أضرار جسيمة. كما أن قدرة إسرائيل الظاهرة على اختراق البنية الاستخباراتية داخل إيران ستشكل موضع اهتمام بالغ لدى أنقرة، وقد يدفعها ذلك إلى إعادة تقييم وتعزيز منظوماتها المضادة للتجسس، تحسبا لأي عمليات قد تستهدف أصولها الاستراتيجية.
وعجلت الحرب بين إسرائيل وإيران من وتيرة طموحات تركيا في تطوير برنامجها المحلي للصواريخ الباليستية. ففي 20 يونيو/حزيران، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان عن خطط لتعزيز القدرات التركية في مجال الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى. وتُعرف تركيا بصاروخها الباليستي فائق السرعة قصير المدى “طيفون”، والذي يُقدر أن مداه يتراوح بين 280 كيلومترا (170 ميلا) و800 كيلومتر (500 ميل). وفي 3 فبراير/شباط، أجرت تركيا تجربة إطلاق لصاروخ “طيفون” من مطار ريزة-آرتفين المطل على البحر الأسود. وعلى الرغم من عدم الإعلان عن المدى الدقيق للتجربة، أشارت تحليلات ما بعد الإطلاق إلى أن الصاروخ تجاوز مسافة 560 كيلومترا، متفوقا على التجربة السابقة.
وتواصل تركيا التأكيد على القيمة الاستراتيجية لمنظوماتها الدفاعية المحلية، مروجة للإنتاج الوطني بوصفه ركيزة تنافسية أساسية. وفي العام الماضي، قال الرئيس أردوغان: “لقد قررنا تعزيز مخزوننا من الصواريخ ذات المدى الذي يتجاوز 800 كيلومتر، وتسريع برنامج تطوير الصواريخ بمدى يصل إلى 2000 كيلومتر وما فوق”.
كما كثفت أنقرة جهودها للعودة إلى برنامج الطائرة المقاتلة “جوينت سترايك فايتر-إف-35” بقيادة الولايات المتحدة، بعد انقطاع طويل. وقد يتطلب هذا المسار من تركيا التخلي عن منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400″، التي كانت قد اقتنتها عام 2019.
ويبدو أن أنقرة باتت على قناعة بأن الاكتفاء بالمراقبة السلبية للصراع بين إيران وإسرائيل، واستنزاف كل طرف للآخر، لا يغني عن تبني موقف دفاعي موثوق ومستقل. وقد عززت المواجهة الأخيرة شعور تركيا بالحاجة الملحة إلى الاستثمار في القدرات الرادعة والاستعداد العملياتي.
إعادة ترتيب المشهد الإقليمي
لم تغب عن أنقرة مساعي إسرائيل لاستثمار مكاسبها العسكرية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لإعادة تشكيل الواقع الإقليمي القائم. ففي وقت تكافح فيه الحكومة السورية المؤقتة برئاسة أحمد الشرع لبسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية، اتخذت إسرائيل موقفا علنيا موازيا، سعت من خلاله إلى تقديم نفسها كراعية للأقليات السورية، وخصوصا الدروز في منطقة القنيطرة جنوب غرب البلاد، الذين تجمعهم بها علاقات مجتمعية عابرة للحدود، وكذلك الأكراد في الشمال الشرقي، الذين شكلت مطالبهم بالحكم الذاتي موضع خلاف إقليمي طويل الأمد.
وفي مقابلة أجراها في ديسمبر/كانون الأول 2024، قال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر: “شددت في محادثاتي مع وزراء خارجية حول العالم، من أنتوني بلينكن إلى غيره، على مسؤولية المجتمع الدولي تجاه الأكراد”، مشيرا إلى “التضحيات التي قدمها الأكراد في قتالهم ضد (داعش)”، ومحذرا من “مخاطر تقويض الحكم الذاتي الكردي”.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن دولت بهشلي، زعيم “حزب الحركة القومية” والشريك الأصغر في الائتلاف الحاكم في تركيا، دعمه العلني لمبادرة تهدف إلى إنهاء التمرد الذي يخوضه “حزب العمال الكردستاني” المحظور، والمستمر منذ أكثر من أربعة عقود.
ورغم تعدد دوافع هذه الخطوة، فإن فهمها يصبح أكثر وضوحا في سياق إعادة الاصطفاف الإقليمي السريع، حيث ترى النخب السياسية والأمنية في تركيا فرصة لإعادة رسم موازين القوى على طول حدودها مع سوريا. ويظل تحييد التهديد الذي يشكله “حزب العمال الكردستاني” وفروعه أولوية وجودية لأنقرة.
ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى التحركات الحكومية الأخيرة نحو عملية نزع السلاح كجزء من حسابات أشمل، تسعى من خلالها تركيا إلى ترسيخ دورها، لا دور إسرائيل، كفاعل محوري في صياغة مستقبل المنطقة، خاصة خلال المرحلة الانتقالية السياسية في سوريا.