غموض يعمّق هشاشة الأسواق الإيرانية: حين يتحوّل وقف إطلاق النار إلى شلل اقتصادي

كان من المتوقع أن يشهد الوضع بعض الهدوء عقب انتهاء المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل وإعلان الهدنة، غير أن الواقع الميداني يعكس صورة مغايرة.

ميدل ايست نيوز: دفع وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل الاقتصاد الإيراني إلى مرحلة من انعدام اليقين المضاعف وتعليق القرارات، وهي مرحلة لا تنطوي على أي مؤشرات للاستقرار، ولا تحمل علامات على انتهاء الأزمة.

كان من المتوقع أن يشهد الوضع بعض الهدوء عقب انتهاء المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل وإعلان الهدنة، غير أن الواقع الميداني يعكس صورة مغايرة. فالاقتصاد الإيراني، الذي كان قد تعرض لضغوط غير مسبوقة أثناء أيام الحرب، يعيش الآن في حالة غموض مربك؛ لا هو في حالة حرب، ولا هو في حالة سلم، ولا يوجد فيه استقرار ولا سبيل للعودة إلى الوضع الطبيعي.

ورغم أن الهدنة بين الجانبين والتي يصفها مراقبون بـ “المؤقتة” تبدو بدايةً لفترة خالية من العنف، إلا أنها في الواقع زجّت باقتصاد إيران في منتصف جبهتين غير مرئيتين. فمن جهة، لا تزال التهديدات الإقليمية قائمة، ومن جهة أخرى، لم تترك للبنى التحتية الاقتصادية المتضررة وسلاسل التوريد المعطّلة أي مجال للتنفس. وفي ظل هذا، تدخل الأسواق بطبيعة الأمر في حالة من الشلل. فلا هي متفائلة بالمستقبل، ولا تجاوزت الماضي.

اقتصاد يفتقر إلى اليقين

ربما كان من المتوقع أن يتجه المناخ الاقتصادي في إيران نحو التهدئة بعد الإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب بين إيران وإسرائيل، لكن ما يظهر في مؤشرات الاقتصاد الإيراني اليوم يُشبه إلى حد كبير حالة من «التعليق العميق»، وهي حالة لم تنتهِ فيها التهديدات بشكل كامل، ولم يتشكل فيها أي يقين تجاه المستقبل. وهنا تبرز دلالة مفهوم «انعدام اليقين المضاعف».

في الظروف العادية، لطالما واجه الاقتصاد الإيراني مستوى معينًا من عدم الثبات، كالتقلبات في سعر الصرف، أو تغيّر السياسات المالية، أو الصدمات الخارجية الناتجة عن التحولات الإقليمية. لكن في المرحلة التي تلي الحرب، يصبح هذا الغموض متعدّد الطبقات. فمن جهة، لم تُستبعد التهديدات العسكرية بالكامل، ولا يزال احتمال تجدد التوتر قائمًا، ومن جهة أخرى، حتى لو لم تُستأنف العمليات العسكرية، تبقى آفاق الاقتصاد ملبّدة بالغموض.

ويترك هذا الغموض المتفاقم أثرًا نفسيًا على الأسواق. إذ يتساءل المستثمرون: «ماذا لو وقع هجوم جديد؟» أو «ماذا لو لم تكن الاتفاقات مستقرة؟». أما المستوردون، فهم في حالة من الترقب ولا يقدمون على الطلبات لأنهم لا يعرفون ما إذا كانت المسارات اللوجستية ستبقى مفتوحة أم تُغلق مجددًا. والمصنّعون مترددون لأنهم لا يعلمون إن كانت المواد الخام ستصل في الوقت المحدد. أما الأسر الإيرانية، فباتت تُحجم عن الإنفاق اليومي وتفضل الحذر على الاستهلاك.

لكن الأخطر من التهديدات نفسها، هو الأثر السلوكي الذي تتركه. فالأسواق في إيران لا تشبه أي أسواق أخرى في العالم، فهي لا تتفاعل فقط مع ما يحدث فعليًا، بل أيضًا مع ما قد يحدث. وهنا، قد تتحول أي شائعة إلى موجة جديدة من التقلبات. سوق الصرف قد يشهد اضطرابًا بسبب خبر غير رسمي. والبورصة ستتراجع مع كل غموض سياسي. وسلوك الناس يصبح عاطفيًا بدرجة كبيرة ويهمل القواعد المنطقية في التعاطي مع الاقتصاد، ما يعيد إنتاج دوامة انعدام اليقين.

وفي هذا السياق، انقسمت مواقف الفاعلين الاقتصاديين؛ فبعضهم ينتظر استقرار الأوضاع قبل اتخاذ أي خطوة، بينما يفضل البعض الآخر المغامرة مع الحذر الشديد. لكن القاسم المشترك بينهم هو التردد والتعليق في اتخاذ القرار. لقد دخل الاقتصاد في حالة «الانتظار والترقب».

هدوء مشوب بالترقّب

عسكرياً، تُوصف اللحظات التي تعقب الهدنة بأنها «هدوء مشوب بالترقّب»، لحظات قد توحي بالسكينة، لكنها قد تكون تمهيدًا لجولة أخرى من التصعيد. هذه الصورة باتت تنعكس أيضًا في الاقتصاد الإيراني. فالأسعار لم تنخفض ولم تستقر، بل توقفت عند مستوياتها وكأنها تراقب المشهد. والقرارات تأجّلت، وآفاق الفاعلين الاقتصاديين صارت غامضة وضبابية.

وفي الواقع، إذا كانت فترة النزاع قد اتسمت على الأقل بوضوح في التوجه، حيث كان الجميع ينتظر نهاية الحرب، فإن الوضع الحالي لا يحمل أي يقين. فلا يمكن الحديث بثقة عن انتهاء التوتر، ولا يمكن استبعاد تكرار السيناريو العسكري. وهذا الغموض هو بالضبط ما يجعل الأسواق أكثر هشاشة من ذي قبل.

هدنة هشّة

في ظل هدنة هشّة، لا ينبغي أن تنحصر مسؤولية الحكومة في إصدار «قرارات استعراضية»، أو تقديم «ردود فعل متسرعة»، أو الانشغال بـ«الاستعراضات الإعلامية». ما يقتضيه الموقف هو ترميم الثقة العامة دون إثارة أو تهويل، وترسيخ الاستقرار دون تجاهلٍ للواقع، وإدارة المرحلة دون التلويح بانتصارات وهمية أو الإيحاء بانتهاء الأزمة. المطلوب من الحكومة الإيرانية وفق ما يراه خبراء إيرانيون في هذا الظرف الدقيق ليس تكرار الوعود أو إنكار التحديات، بل تبنّي نهج يقوم على ثلاث ركائز أساسية تكررت كثيرا في صفحات وسائل الإعلام المحلية:

  1. تشخيص صحيح للواقع: يجب على الحكومة أن تقرّ بأن البلاد تمرّ بفترة من هدوء غير مستقر. أي أن المجتمع، والأسواق، والرأي العام، لا يتحركون بدوافع الحرب، ولا يقودهم أيضًا التفاؤل بالمستقبل. وإذا تجاهلت الحكومة هذه الحقيقة وحاولت تصوير الوضع كأنه طبيعي، فإن الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع ستتسع أكثر.
  2. طمأنة من دون مبالغة: لا يمكن استعادة ثقة المجتمع عبر وعود ضخمة، بل من خلال رسائل هادئة، يمكن التنبؤ بها، وقابلة للتحقق. قد يتوجب على الحكومة أن تتعلم كيف توصل هذا الإحساس إلى المواطنين: «نحن حاضرين، نُدرك ما يجري، وندير الوضع» – دون الإفراط في إنفاق الموارد أو المبالغة في التصريحات.
  3. إعادة هيكلة صناعة القرار: في أجواء ما بعد الحرب وفي ظل هدنة هشة، فإن اتخاذ قرارات متناقضة ومفككة وغير منسقة، قد يكون أخطر من الحرب نفسها. وهنا يتوجب توحيد قنوات القيادة الاقتصادية والأمنية، بحيث تدرك الأسواق من يتخذ القرار، وكيف يتخذه، ولماذا يتخذه.
تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 + 11 =

زر الذهاب إلى الأعلى