من الصحافة الإيرانية: مكانة إيران في النظام الإقليمي الجديد
في منطقة الشرق الأوسط التي طالما اعتمدت معادلاتها لعقود على النفط وخطوط الأنابيب والمنافسات الهيدروكربونية، نشهد اليوم تحولًا هادئًا لكنه جذري في مفهوم «قوة الطاقة».

ميدل ايست نيوز: في منطقة الشرق الأوسط التي طالما اعتمدت معادلاتها لعقود على النفط وخطوط الأنابيب والمنافسات الهيدروكربونية، نشهد اليوم تحولًا هادئًا لكنه جذري في مفهوم «قوة الطاقة». فبعد أن كان احتكار الموارد والسيطرة على الممرات الاستراتيجية يشكل مفتاح النفوذ الجيوسياسي، بات التلاقي التكنولوجي، وتنوّع الموارد، وبناء المؤسسات متعددة الأبعاد، يشكّل الأسس الجديدة لهندسة دبلوماسية الطاقة.
في هذا النظام الآخذ في التشكّل، لم تعد نماذج دبلوماسية الطاقة التقليدية كافية. فالنموذج الصاعد هو دبلوماسية الطاقة متعددة الطبقات: مزيج من الحوارات الرسمية، والشراكات الإقليمية، والتفاعلات بين الشركات، وأدوار مؤسسات التمويل والمناخ. وهنا يطرح السؤال: ما هو موقع إيران، بكل ما تحوزه من فرص طبيعية وتواجهه من تحديات بنيوية، في هذا النظام الجديد؟
تحوّل في الجيوسياسة الطاقوية
قبل عام 2010، كانت الجيوسياسة الطاقوية تدور أساسًا حول محاور كلاسيكية مثل السيطرة على الاحتياطات، وخطوط الأنابيب، وأمن الإمدادات. لكن مع ظهور تقنيات جديدة (كالغاز الطبيعي المسال، والطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر)، وانخفاض تكاليف الإنتاج غير التقليدي، وتغير أنماط الطلب، تبدّلت المعادلة بشكل ملحوظ. فلم تعد قوة الطاقة مرهونة بامتلاك الموارد فقط، بل بالقدرة على تحويل تلك الموارد إلى رافعة دبلوماسية وأداة للحوكمة الإقليمية.
وفي هذا السياق، بدأت مناطق كانت مهمشة كآسيا الوسطى، والقوقاز، وشرق المتوسط، في تعزيز وزنها الجيوسياسي من خلال تحالفات غازية وبنى تحتية متطورة. كما برزت الصين والهند عبر نماذج استثمارية طويلة الأمد واتصالٍ بنيوي، لتؤديا دورًا جديدًا في صياغة معمار الطاقة الإقليمي. ولم تعد المضائق والأنابيب وحدها أوراق اللعبة، بل أصبحت بيانات الطاقة، والأسواق الخضراء، وتقنيات النقل الحديثة، عناصر فاعلة في الجغرافيا السياسية للطاقة.
دبلوماسية متعددة الطبقات لعصر معقّد
مفهوم دبلوماسية الطاقة متعددة الطبقات نشأ من فشل الدبلوماسية الثنائية التقليدية، وعجز المؤسسات الكلاسيكية (مثل أوبك) عن التعامل مع أزمات الطاقة المتسلسلة. في هذا النموذج، تتشارك الدول، والشركات متعددة الجنسيات، والمؤسسات الإقليمية، وحتى الفاعلون من غير الدول، في بناء مشهد حوكمة الطاقة.
يمكن اعتبار «أوبك بلس» مثالًا على هذه الدبلوماسية متعددة الطبقات، إذ تجمع بين صنع القرار الحكومي والتنسيق بين الشركات. كما يسعى «منتدى الدول المصدّرة للغاز» (GECF) إلى الدمج بين الحوارات الفنية وصناعة السياسات الناعمة. فضلًا عن ذلك، تعكس شراكات مثل إيران–تركمانستان–أذربيجان، أو اتفاقيات الطاقة بين إيران وروسيا وقطر، اتجاها نحو نماذج أكثر مرونة بديلًا عن الأطر الجامدة السابقة.
وفي هذا النموذج الدبلوماسي، تؤدي وسائل الإعلام والرأي العام والمؤسسات العلمية أدوارًا مؤثرة في صياغة سياسات الطاقة. أما المرونة، وقابلية الشراكة، والتعدّدية الزمنية، فهي من سمات هذا النمط الذي قد يعمل كصمام توازن في بيئة إقليمية متوترة.
موقع إيران: فرص هائلة وتحديات متراكمة
من حيث الموارد، تُعد إيران من بين الدول الاستثنائية عالميًا: فهي تمتلك أكبر احتياطات الغاز الطبيعي المؤكدة، وتتمتع ببنى تحتية أنبوبية إقليمية، ولديها خبرة هندسية واسعة، وتقع عند ملتقى الخليج، وآسيا الوسطى، والقوقاز، وشبه القارة. غير أن هذه القدرات الفريدة لم تتحوّل بعد إلى مكانة استراتيجية راسخة في دبلوماسية الطاقة الإقليمية.
ويعود ذلك إلى عدة تحديات، أبرزها استمرار العقوبات، وتقادم بعض البنى التحتية، وضعف جهاز صنع السياسات الطاقوية، وغياب الاتساق في السياسة الاقتصادية الخارجية، والفشل في توظيف القدرات المؤسسية الإقليمية. ونتيجة لذلك، تجد إيران نفسها في معادلة “إمكانات كبيرة، وفعالية ضعيفة”.
في المقابل، نجحت دول مثل قطر في ترسيخ هويتها الدبلوماسية الطاقوية من خلال تركيزها على سوق الغاز الطبيعي المسال ومبادراتها في إطار منتدى الدول المصدّرة للغاز، في حين أسهمت تركيا في ترسيخ دورها من خلال خطوط الترانزيت. ويمكن لإيران أن تعيد تعريف موقعها من خلال صياغة عقيدة شاملة لدبلوماسية الطاقة، تقوم على التقارب الغازي الإقليمي، والمشاركة في التحول الرقمي للطاقة، وتنويع صادراتها (سواء ماديًا أو تقنيًا).
خلاصة
لم تعد دبلوماسية الطاقة في عالم اليوم حكرًا على الاتفاقات طويلة الأمد أو الاجتماعات الرسمية، بل باتت شبكة مرنة ومتعددة المستويات تحدد قدرة الدول على لعب أدوار إقليمية فاعلة. ولإيران، فإن الخطوة الأولى لإعادة صياغة مكانتها تبدأ بالخروج من العزلة البنيوية، والانخراط الواعي في مسارات بناء المؤسسات الطاقوية الإقليمية.
ومن بين المقترحات المطروحة:
- إعداد “وثيقة استراتيجية لدبلوماسية الطاقة للجمهورية الإسلامية الإيرانية” بمشاركة الوزارات، والجامعات، والقطاع الخاص.
- تأسيس “منصة غاز غرب آسيا” بمشاركة إيران، وقطر، وروسيا، ودول القوقاز.
- تعزيز دور إيران في نقل المعرفة والبيانات والمعايير في مجال الطاقات الجديدة.
- تقوية الدبلوماسية الإعلامية للطاقة بهدف التأثير في الرأي العام الإقليمي والدولي.
في المحصلة، إذا أرادت إيران ألا تظل مجرد مزوّد في النظام الطاقوي الجديد، فعليها أن تتحوّل إلى مهندس للتكامل الطاقوي الإقليمي؛ وهو دور أصبح متاحًا أكثر من أي وقت مضى عبر تبني دبلوماسية الطاقة متعددة الطبقات.
كامران يكانكي
باحث في قسم العلوم المعرفية والتكنولوجيا والحوكمة