من الصحافة الإيرانية: قمة شنغهاي والقواعد الجديدة للعبة العالمية
يُظهر تحليل المضمون أن ما يقارب 70% من النص خُصّص بالتساوي تقريباً لموضوعين: الأمن ومكافحة الإرهاب من جهة، والتعاون والتنمية الاقتصادية من جهة أخرى.

ميدل ايست نيوز: انعقدت القمة الأخيرة لمنظمة شنغهاي للتعاون، فأعادت إشعال النقاشات حول دور ومكانة هذه المنظمة في الاقتصاد والسياسة العالميين. فقد اعتبر بعض المراقبين ديناميكية المنظمة مؤشراً مهماً على أفول النظام الليبرالي الدولي، فيما رآها آخرون مجرد نادٍ محدود الأهمية. لكن ما لم يُبحث بعمق هو كيف تفسر منظمة شنغهاي النظام الدولي القائم، وأي دور ترسمه لنفسها.
وحسب مقال لأستاذ جامعة شهيد بهشتي الإيرانية “محسن شريعتي نيا” بصحيفة “دنياي اقتصاد” الإيرانية، إن البيان الختامي لقمة تيانجين يعكس نظرة المنظمة إلى النظام القائم وكيفية إحداث تحول فيه. وبالاعتماد على تحليل مضمون البيان الختامي للقمة الأخيرة، يمكن تقديم إجابات تتجاوز القوالب النمطية الشائعة. ويُظهر تحليل المضمون أن ما يقارب 70% من النص خُصّص بالتساوي تقريباً لموضوعين: الأمن ومكافحة الإرهاب من جهة، والتعاون والتنمية الاقتصادية من جهة أخرى. فيما خُصص نحو 20% للسياسة والعلاقات الدولية، وقرابة 10% للثقافة والمجتمع. هذا التوزيع يوضح أن المنظمة تتحرك اليوم وفق محورين: الأمن شرطاً مسبقاً، والاقتصاد محرّكاً أساسياً.
لا تزال الجوانب الأمنية مركزة على «الشرور الثلاثة» الشهيرة: «الإرهاب»، «التطرف»، و«الانفصالية». ومع ذلك، طُرحت ابتكارات مؤسساتية جديدة، من بينها إنشاء مركز شامل للتصدي للتهديدات الأمنية ومركز لمكافحة المخدرات. وفي منطق منظمة شنغهاي، يشكل الأمن شرطاً أساسياً لممرات التجارة وتدفقات رأس المال، إذ يُعد الاستقرار على الحدود، وخطوط السكك الحديدية، والبنى التحتية للطاقة أساساً لازدهار المنطقة.
أما في الجانب الاقتصادي، فالبيان أكثر طموحاً، حيث تتكرر فيه مصطلحات مثل «التجارة»، «الاستثمار» و«الترابط البنيوي» مرات عدة، لكن كلمة «الطاقة» هي الأكثر وروداً. ويؤكد النص بدء مشروع خط السكك الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان بعد عقود من الخلاف. كما يَعِد بتطوير ممرات «شمالية–جنوبية» و«شرقية–غربية» عبر أوراسيا، ويشير إلى خطط رقمنة الجمارك، واعتماد «النافذة الموحدة» للتجارة، وخارطة طريق للأمن الغذائي، ضمن أجندة لوجستية متكاملة. أي أن شنغهاي تسعى لربط فضاء أوراسيا مادياً ورقمياً.
الخطوة المالية الأكثر جرأة تمثلت في قرار تأسيس بنك التنمية التابع للمنظمة، ما ينقلها من مرحلة النقاش إلى مرحلة بناء المؤسسات. ويقترن القرار بالتزام توسيع التسويات بالعملات الوطنية وتعزيز اتحادها المصرفي، في إشارة إلى سعي الأعضاء نحو استقلال مالي يقلل من التعرض للعقوبات ومن الاعتماد على الدولار. وفي السياق نفسه، يدين البيان «الإجراءات القسرية الأحادية» أي العقوبات الغربية بلغة دبلوماسية، وإن كان الطريق لا يزال طويلاً أمام تبلور مثل هذه الترتيبات.
كما دخلت التكنولوجيا بقوة في أجندة المنظمة؛ إذ أعلن البيان اعتماد خارطة طريق للتعاون في الذكاء الاصطناعي، ودعم إنشاء مركز للذكاء الاصطناعي في آسيا الوسطى، وأكد العمل المشترك لتطوير التجارة الرقمية والإلكترونية وتوحيد المعايير. فمن الواضح أن أي جهة تضع قواعد الذكاء الاصطناعي وتدفقات البيانات والأسواق الرقمية ستسهم في تشكيل مستقبل العولمة. وهنا تطرح المنظمة نفسها كجهة معيارية في مواجهة الغرب.
ومن زاوية النظرة للنظام الدولي القائم، ورد اسم الأمم المتحدة 19 مرة في البيان، ما يوضح أن هذه المؤسسة ما زالت الإطار المرجعي القانوني والشرعي للمنظمة. في المقابل، ذُكر اسم الولايات المتحدة مرتين فقط، وكلتاهما في سياق سلبي: مرة بشأن الهجوم على إيران، ومرة أخرى تلميحاً عند الحديث عن العقوبات. أما الناتو والاتحاد الأوروبي فلم يُذكرا إطلاقاً. وهذا التفاوت ليس صدفة؛ إذ عبر التمسك بخطاب الأمم المتحدة وإقصاء التحالفات الغربية أو إدانتها، تصوغ المنظمة بوعي سردية متعددة الأقطاب.
وتبدو بصمات الصين واضحة في النص؛ إذ وردت مبادرة «الحزام والطريق» ثلاث مرات وحظيت بدعم صريح من ثمانية أعضاء. كما ذُكرت الصين أكثر من أي عضو آخر، وظهرت تعابير مثل «العالم المتعدد الأقطاب» و«التعاون الرابح – الرابح» المطابقة لخطابها الدبلوماسي. أما الإنجازات العملية، من السكك الحديدية إلى بنك التنمية، فهي تعكس أولويات بكين المتمثلة في الترابط البنيوي، التعاون المالي، والحَوْكمة التكنولوجية.
إجمالاً، يقدم بيان تيانجين صورة للمنظمة ككيان يتجاوز التركيز على تهديدات الحدود، ليغدو منظمة إقليمية سياسية–اقتصادية تضع لأعضائها قواعد في السياسة (تعددية الأقطاب وشرعية الأمم المتحدة)، والمال (بنك التنمية والعملات المحلية)، واللوجستيات (الطاقة والممرات)، والرقمنة (الذكاء الاصطناعي والمعايير الرقمية). أي أن منظمة شنغهاي تتحول من الحوار إلى وضع القواعد.
أما التداعيات فهي واضحة: بالنسبة لواشنطن وبروكسل، يمثل البيان تصعيداً في المواجهة الخطابية، خاصة بإدانته الصريحة لأفعال الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران. أما بالنسبة للجنوب العالمي، فيطرح المنظمة كمدافع عن إصلاح الأمم المتحدة، والتجارة العادلة، والأمن الغذائي والطاقي. وبالنسبة للصين، التي استضافت القمة، فإن البيان يعزز مكانة بكين كمهندس لتعددية أقطاب أوراسيا.
لا تزال المنظمة بحاجة إلى خطوات إضافية على مستوى التعاون العملي، لكن في عالم تتشتت فيه المالية وحوكمة التكنولوجيا، يمكن اعتبار بيان تيانجين محاولة لصنع بدائل وظيفية ومسارات إقليمية لتدفقات المال والسلع والبيانات خارج الأطر الغربية. وكانت مقترحات إيران في القمة واقعية وبراغماتية، ما يستدعي العمل على تحويلها إلى برامج تنفيذية والتشاور مع بقية الأعضاء لإدراجها ضمن أولويات المنظمة. إن منظمة شنغهاي تنتقل تدريجياً من مؤسسة حوارية إلى منظمة واضعة للقواعد، مع أولوية صياغة قواعد إقليمية لمواجهة التهديدات الأمنية الحديثة وتعزيز التعاون الاقتصادي.
وبالنسبة لإيران، فإن المطلوب هو الانتقال من مجرد «الحضور» إلى المشاركة الفاعلة في «صياغة الأجندة» أو ما يُعرف بوضع القواعد. فهذه المنظمة تُعد إحدى المسارات الحيوية أمام إيران للمشاركة في رسم قواعد إقليمية خلال السنوات المقبلة. والاستفادة من هذه الفرصة تقتضي فهماً علمياً عميقاً للمنظمة، بعيداً عن الصور النمطية، ومشاركة مدروسة في صياغة القواعد المتعددة الأطراف.


