إحياء القرارات الأممية ضد طهران: التداعيات وخيارات الرد الإيراني
يقترب الملف النووي الإيراني من مرحلة تصعيد إضافية تعيده إلى المربّع الأول، ولكن هذه المرة في ظلّ ظروف إقليمية ودولية أشدّ خطورة، تُعلن عملياً نهاية ما تبقى من عهد الاتفاق النووي.

ميدل ايست نيوز: يقترب الملف النووي الإيراني من مرحلة تصعيد إضافية تعيده إلى المربّع الأول، ولكن هذه المرة في ظلّ ظروف إقليمية ودولية أشدّ خطورة، تُعلن عملياً نهاية ما تبقى من عهد الاتفاق النووي المبرم عام 2015. ويأتي هذا التطوّر بعدما رفض مجلس الأمن، أول من أمس الجمعة، مشروع قرار لإلغاء دائم للعقوبات الأممية المفروضة على طهران.
ويعني ذلك أنه ما لم تُحل الخلافات بين إيران ودول الترويكا الأوروبية؛ فرنسا وبريطانيا وألمانيا، قبل الـ28 من الشهر الحالي، فإن آلية “سناب باك”؛ “آلية العودة السريعة للعقوبات على إيران” بموجب اتفاق 2015 وقرار مجلس الأمن المنظم لهذا الاتفاق رقم 2231، ستدخل حيّز التنفيذ ابتداء من هذا التاريخ، لتعيد فرض العقوبات وقرارات مجلس الأمن السابقة ضد إيران.
ويُعد ما يُعرف بـ”آلية الزناد” أو “سناب باك” جزءاً أساسياً من نص الاتفاق النووي لعام 2015، الموقّع بين إيران والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، إلى جانب أميركا التي انسحبت منه عام 2018، والذي تنتهي صلاحيته في 18 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. وينص بند الآلية المذكورة على أنه إذا انتهكت إيران التزاماتها الجوهرية في الاتفاق النووي، يمكن إعادة فرض العقوبات الأممية بصورة تلقائية من دون الحاجة إلى إجماع في مجلس الأمن.
وفي هذه الحالة، يحق لأي طرف من أطراف الاتفاق أن يُخطر المجلس بعدم امتثال إيران لالتزاماتها، وهو ما فعلته الترويكا الأوروبية نهاية الشهر الماضي، في إجراء أمهل الطرفين 30 يوماً للتوصل إلى حل دبلوماسي (أي حتى 28 سبتمبر/ أيلول الحالي). لكن طهران تعتبر الخطوة “غير قانونية”، مؤكدة أنه جرى تفعيل هذه الآلية بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق عام 2018، وهو ما تراه إيران سبباً لبطلان أي محاولة لإعادة تفعيل العقوبات، إذ خفضت بعض التزاماتها منذ ذلك التاريخ.
بالنصوص.. ما هي القرارات الأممية التي ستُفعّل مجدداً عبر آلية الزناد؟
طبيعة القرارات الأممية
تعني عودة العقوبات الأممية على إيران إحياء ستة قرارات صادرة عن مجلس الأمن ما بين عامي 2006 و2010، والتي فرضت طيفاً واسعاً من القيود على طهران. وقد جرى تعليق هذه القرارات عام 2015، عقب توقيع الاتفاق النووي واعتماد القرار 2231 من قبل مجلس الأمن في العام نفسه. وتشمل العقوبات المنصوص عليها في القرارات 1696، 1737، 1747، 1803، 1835، و1929، مجموعة واسعة من القيود، تمتد من البرنامجين النووي والصاروخي إلى حظر التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، وفرض قيود على النقل البحري والجوي، وتقييد الأنشطة المالية والمصرفية، بالإضافة إلى تجميد أصول وفرض حظر على أشخاص وكيانات محددة.
وصدر أول قرار ضد إيران، ورقمه 1696، في يوليو/ تموز 2006، والذي ألزمت فيه بتعليق كل الأنشطة المرتبطة بتخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة البلوتونيوم، بما في ذلك مجالات البحث والتطوير. وجاء هذا القرار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما جعله ملزماً من الناحية القانونية (يُعطي مجلس الأمن سلطة اتخاذ إجراءات قسرية، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية، في حالات تهديد السلم أو الإخلال به أو وقوع أعمال عدوان لفرض الاستقرار الدولي)، كما دعا إلى تعاون كامل من جانب إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أما القرارات الخمسة اللاحقة فقد وسّعت نطاق العقوبات وأضافت قيوداً إضافية، مع تكرار مطالبة إيران بمواصلة تعليق أنشطتها النووية الحساسة.
في أول تعليق له على رفض مجلس الأمن إلغاء نهائياً للعقوبات الدولية على إيران، أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أمس السبت، أن هذه الخطوة لن تثني إيران عن مواصلة مسارها. وتساءل في كلمة خلال لقاء مع رياضيين إيرانيين في طهران: “عقدوا أمس (الجمعة) اجتماعاً لتفعيل آلية سناب باك، لكن هل سيغلقون الطريق؟ العقول الإيرانية ستبحث عن طريق آخر أو ستشق طريقاً جديداً”، وأضاف أنهم “لا يستطيعون إيقافنا. قد يقصفون منشآتنا في نطنز وفوردو، لكنهم غافلون عن أن الذين بنوا نطنز وفوردو سيبنون ما هو أهم منها”.
وكانت وزارة الخارجية الإيرانية قد وصفت، في بيان مساء أول من أمس، تحرك الدول الأوروبية الثلاث عبر مجلس الأمن بأنه “غير قانوني، وغير مبرَّر، واستفزازي”، معتبرة أن هذه الخطوة مخالفة للقانون الدولي وتقوّض المسار الدبلوماسي. كما حمّلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الثلاث المسؤولية الكاملة عن تبعاتها، مؤكدة أن البرنامج النووي الإيراني “سلمي الطابع”، وأن طهران تحتفظ بحقها في الرد المتناسب على “أي إجراءات غير قانونية”.
من جانبه، قال كاظم غريب آبادي، نائب وزير الخارجية للشؤون الدولية، في مقابلة مع التلفزيون الإيراني، إن بلاده “مستعدة للتعامل مع أي سيناريو”، مضيفاً: “سوف نضبط سلوكنا وسياساتنا وإجراءاتنا بما يتناسب مع تحركات الأطراف المقابلة”. وأوضح أن طرح مسألة “سناب باك” في جلسة مجلس الأمن “لا يعني أن العقوبات فُعّلت فوراً هذا اليوم”، لافتاً إلى أن “إيران حالياً لا تمارس أي أنشطة تخصيب، وعندما لا تكون هناك أنشطة من هذا النوع، فإنّ سناب باك بذريعة عدم تنفيذ الالتزامات النووية يصبح بلا موضوع، وبلا معنى”.
دلالات عودة القرارات الأممية
يؤكد المسؤولون الإيرانيون أنّ استئناف العقوبات الأممية لن يفرض ضغطاً إضافياً كبيراً على الاقتصاد الإيراني، مع القول إن العقوبات الأميركية الشاملة المفروضة في الوقت الراهن أشد قسوة من أي عقوبة أخرى. في هذا السياق، يقول المحلل الإيراني، صلاح الدين خدیو، إنه “يمكن الجدل بشأن تقييم الأثر الفعلي لهذه العقوبات على الاقتصاد الإيراني، الذي يخضع أصلاً لضغوط أميركية قاسية، لكن لا يمكن تجاهل تداعياتها النفسية والسياسية وانعكاساتها القانونية”. ويضيف أن هذا الإجراء يعني، قبل كل شيء، إغلاق المسار الدبلوماسي لحل الملف النووي الإيراني؛ إغلاقاً “لا يفتح هذه المرة بأي مفتاح”.
أما الأثر السلبي الثاني لعودة العقوبات فيكمن، بحسب خدیو، في “وضع إيران بمواجهة المجتمع الدولي برمته”، موضحاً أنه “بينما كانت المواجهة في السابق مقتصرة على الثنائي الأميركي الإسرائيلي، فإن إيران ستجد هذه المرة أوروبا أيضاً في صف خصومها”، بما يشمل دولاً تنتقد أحياناً النهج الأحادي الذي يتبعه “الثنائي المخرّب واشنطن وتل أبيب”.
ويشير الخبير الإيراني إلى أن عودة العقوبات الدولية تُضفي طابعاً قانونياً على منظومة العقوبات ضد طهران، كما أن إيران “المعزولة والمُدانة من مجلس الأمن”، تمنح مخرجاً لإسرائيل المنبوذة دولياً. وعن سبب امتناع طهران عن اتخاذ خطوات جوهرية للحؤول دون تفعيل “آلية الزناد”، يوضح خدیو أن الشروط التي وضعتها الإدارة الأميركية الحالية “غير مقبولة إيرانياً”، مشيراً إلى أن أحد مطالب الترويكا الأوروبية لوقف تفعيل الآلية هو استئناف فوري وغير مشروط للمفاوضات مع واشنطن. غير أن الأجندة التي حدّدتها الإدارة الأميركية، بحسب خديو، تترك عملياً هامشاً معدوماً لأي تنازل إيراني في ملف تخصيب اليورانيوم (تطالب واشنطن بتصفيره)، إذ إن البيت الأبيض وضع إصبعه بوضوح على ضرورة تقييد مدى وقدرات الصواريخ الإيرانية.
يشار إلى أنه بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى (2017-2021)، وفرضها عقوبات شاملة على إيران، بدأت طهران على نحو تدريجي بالتراجع عن التزاماتها النووية. رفعت إيران مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60% (90% هي النسبة اللازمة لصنع سلاح نووي، علماً أن سقفه في الاتفاق 3.67 % أي لأغراض سلمية). كما زادت مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى ما يفوق بكثير السقف المحدد في الاتفاق (أي لا يتجاوز 300 كيلوغرام، فيما بحسب تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية في مايو/ أيار الماضي تمتلك إيران 9247.6 كيلوغراماً بجميع مستويات التخصيب والأشكال الكيميائية)، مواصلة بذلك أنشطتها النووية بوتيرة متصاعدة.
وفي يونيو/ حزيران الماضي، خلال حرب الـ12 يوماً، شنّت إسرائيل والولايات المتحدة هجمات على بعض المنشآت النووية الإيرانية (أهمها نطنز وأصفهان وفردو)، ما زاد من حدة التوتر بين إيران والغرب. وعلى الرغم من توصل إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية في التاسع من سبتمبر الماضي، في القاهرة، إلى اتفاق بشأن إطار جديد للتعاون (بعد تعليق التعاون في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأميركي) فإن هذا التفاهم لم يلقَ قبول الترويكا الأوروبية، التي اعتبرته “غير كاف”، إذ لم يسفر عن استئناف فوري لعمليات التفتيش (لم تتوضح تفاصيل التفاهم الجديد).
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، قدّم وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الأربعاء الماضي، خلال مكالمة هاتفية مشتركة مع نظرائه في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ومسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، مقترحاً للحؤول دون تفعيل آلية “سناب باك”. ووفق تقارير صحافية، كان المقترح يتعلق بخفض نسبة تركيز اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. غير أن هذا العرض أيضاً قوبل بالرفض من الجانب الأوروبي، الذي اعتبر أن وزارة الخارجية الإيرانية لا تمثل كل البنية السياسية للدولة. في المقابل وصف عراقجي هذا الادعاء بأنه “سخيف”.
خيارات طهران
يقول الخبير الإيراني المقرّب من وزارة الخارجية، عباس أصلاني إن أسرع رد فعل متوقع من طهران على استئناف العقوبات الدولية سيكون إلغاء الاتفاق الموقع مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في القاهرة، قبل نحو أسبوعين. ويضيف أصلاني أن من بين الردود المحتملة أيضاً طرح موضوع انسحاب إيران من معاهدة عدم الانتشار النووي بشكل أكثر جدية في البرلمان، معتبراً أن ذلك سيأخذ حيّزاً أكبر في المرحلة المقبلة.
ويوضح أن تحرّكات إيران لن تتوقف عند هذا الحد، مرجّحاً أن تعمد طهران إلى استبعاد الأوروبيين من أي مفاوضات نووية مقبلة، بحيث، إذا ما جرت مفاوضات مستقبلية، ستكون إما عبر وساطات أو ضمن أطر لا تتيح لفرنسا وألمانيا وبريطانيا لعب دور مباشر فيها.
وفي رأي أصلاني فإن “المفاوضات ستتركز على الأغلب مع الجانب الأميركي، سواء بشكل غير مباشر أو بشكل آخر”، مشيراً إلى أن خيار إيران الآخر هو تعميق انخراطها مع المحور الشرقي المكوّن من روسيا والصين وكذلك مع دول الجوار، “خصوصاً أنه كلما ازداد الضغط الغربي على طهران، اقتربت الأخيرة أكثر من هذا المحور، وبما يمكن أن يفضي إلى علاقات أكثر عمقاً في المستقبل”.
من جانبه، يؤكد القيادي السابق في الحرس الثوري الإيراني، حسين كنعاني مقدّم، لـ”العربي الجديد”، أن الأوروبيين بدورهم “دفنوا عهد الاتفاق النووي فعلياً بقرارهم الأخير”، مشدداً على أن طهران ستتبنى استراتيجية “الزناد مقابل الزناد”.
ويبيّن أن لدى إيران العديد من الأوراق للرد، “منها الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي، إغلاق مضيق هرمز (بين سلطة عُمان وإيران)، قطع التعاون مع عدد من الدول الأوروبية، طرد سفراء فرنسا وألمانيا وبريطانيا، إضافة إلى خطوات سيتخذها المجلس الأعلى للأمن القومي لتقييد الأنشطة الاقتصادية الأوروبية في المنطقة”.
ويختم كنعاني مقدّم بالتأكيد أن “أبواب التفاوض أُغلقت، لكن ما تزال هناك نوافذ يمكن استغلالها لمسارات دبلوماسية، إلا أن المرحلة الحالية ستبقى محكومة بمعادلة الزناد مقابل الزناد”.