الصحافة الإيرانية: الاتفاق النووي وضرورة الوساطة
ربما لا يكون وصف الاتفاق النووي الإيراني بأنه "بلا صاحب" بعيداً عن الحقيقة، إذ حتى أولئك الذين شاركوا في صياغته وإبرامه لم يقدموا يوماً عرضاً شفافاً وشاملاً له يوضح طبيعته وأهدافه وأبعاده الحقيقية.

ميدل ايست نيوز: تعددت التعريفات لمفهوم “الوساطة” وتنوّعت تطبيقاته في مجالات مختلفة، وأحياناً يُنظر إليه كحرفة أو مهنة قائمة بذاتها. إلا أن المقصود بهذا المفهوم في هذا المقال لا يقتصر على الوساطة بالمعنى التقليدي أو الإصلاح بين الأطراف، بل يشير إلى التحكيم المهني والمتخصص الذي يقوم به أشخاص ذوو كفاءة واستقلالية في القضايا الخلافية، بحيث يكتسبون صفة المرجعية ويصبح حكمهم بمثابة القول الفصل. وتُعد قضية الاتفاق النووي الإيراني مثالاً واضحاً لمثل هذه القضايا التي تستدعي وساطة من هذا النوع.
وقال غلام رضا نظر بلند، وهو متخصص في الشؤون المالية، في مقال نشره موقع دبلوماسي إيراني، إن الاتفاق النووي الإيراني يعتبر موضوعاً خلافياً بين طرفين متقابلين: أحدهما يدافع عنه بشدة، والآخر يعارضه تماماً. فكل ما يقوله المؤيد يصب في صالح الاتفاق، بينما يرى المعارض فيه خطراً مطلقاً، وكأن هذا الاتفاق المليء بالتفاصيل والتقلبات إما أن يكون أسود قاتماً أو أبيض ناصعاً لا وسط بينهما. والواقع أن الاتفاق لم يُولد بين ليلة وضحاها، ولم يبدأ تاريخه قبل عشر سنوات فحسب، بل يمكن القول إن جذوره تعود إلى انطلاق البرنامج النووي الإيراني نفسه، أي منذ أكثر من عشرين عاماً. هذا الامتداد الزمني الطويل في تشكّل الاتفاق، ودوره المهم الذي تجاوز النطاقين الوطني والإقليمي، يجعله نتاجاً لعوامل متعددة، من أبرزها:
- التفاعل بين الشرق والغرب رغم التوترات القائمة بينهما، بما في ذلك فترة وجيزة من التعاون بين روسيا والغرب.
- سياسة المهادنة الطويلة التي انتهجتها الصين تجاه القوى الغربية عبر الأطلسي.
- التحولات في النظام الدولي والقانون الدولي.
- الصراعات الداخلية والسياسات المحلية التي أدت أحياناً إلى خلق استقطاب حاد داخل إيران.
- تضارب المصالح بين الأطراف الداخلية والخارجية، بما في ذلك تلك التي تُعلي من مصالحها الشخصية أو الفئوية على حساب المصلحة الوطنية.
وعلى الرغم من أن الاتفاق النووي شغل الحيز الأكبر من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إيران على مدى ما يقرب من ربع قرن، ولم تخلُ آثاره من تأثيرات عميقة على مختلف المستويات، إلا أنه لم يخضع يوماً لتقييم محايد ومهني من قبل “الوسطاء” أو “الحكماء” المقصودين بهذا المقال.
ربما لا يكون وصف الاتفاق بأنه “بلا صاحب” بعيداً عن الحقيقة، إذ حتى أولئك الذين شاركوا في صياغته وإبرامه لم يقدموا يوماً عرضاً شفافاً وشاملاً له يوضح طبيعته وأهدافه وأبعاده الحقيقية. وقد مثّل هذا الغموض ظلماً متعمداً أو غير متعمّد للاتفاق، وجعل من أصحابه شركاء غير مباشرين لمعارضيه في تشويه صورته.
حتى لو افترضنا أن الاتفاق انتهى فعلاً، وهو ما لا يبدو أنه الحال، فإن من الواجب روايته كما هو، بصدق وكمال. غير أن هذه الرواية لا يمكن أن تصدر عن أي من الطرفين، لأن كلاً منهما منحاز في نظرته ويتحدث من موقع الأيديولوجيا لا الموضوعية. ومن هنا تأتي الحاجة إلى تدخل شخصيات محايدة ليست ذات مصلحة أو ضرر مباشر، تنظر فقط إلى المصلحة الوطنية، وتستخدم خبراتها العلمية والعملية وحرصها الوطني لتقديم تقييم مهني وصريح، دون مجاملة أو تردد.
لقد أدّى الاتفاق النووي، سواء عن قصد أو بحكم الواقع، إلى انقسام سياسي واجتماعي حاد داخل إيران. هذا الانقسام يمثل خطراً جسيماً على إدارة الدولة واستقرارها السياسي، ولا يمكن معالجته إلا من خلال “الوساطة” كما تم شرحها سابقاً، مع إعلان هدنة من كلا الطرفين المتصارعين.
إيران اليوم بحاجة إلى التركيز على القضايا الملحّة التي تواجهها، ووضع حلول استراتيجية وتنفيذية عاجلة لها. أما الاستقطاب، فهو فخّ يحول دون أن يتمكن الوسطاء من التعمق في تحليل الماضي وفهم الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هذه المرحلة، كما يمنع الشعب ومؤسسات الحكم من التفرغ لمواجهة التحديات الحقيقية.
ومن الضروري، مع دخول “الوسطاء” إلى الساحة، أن يقبل مؤيدو الاتفاق النووي ومعارضوه بإعلان وقف إطلاق النار السياسي، حتى يتاح للشعب والدولة فرصة التركيز على المخاطر التي تتهدد البلاد حالياً، والعمل بعقلانية وتدبير للخروج من هذه الأزمة.