مناورة سياسية أم خطوة نحو السلام.. هل يلتزم ترامب بآداب التفاوض؟

العودة إلى نقطة الصفر في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة قد تبدو في الأفق القريب أمراً بعيد المنال

ميدل ايست نيوز: “أنا مستعد للتفاوض مع إيران”، ما سبق هي جملة تكررت كثيراً في خطابات الرئيس الأمريكي الأخيرة منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس والكيان الإسرائيلي وانتهاء الحرب في غزة. وهي عبارة يمكن تقييمها من زاويتين: نظرة متفائلة وأخرى متشائمة.

وقالت وكالة إرنا الإيرانية الحكومية في تقرير لها، إن دونالد ترامب، قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة وربما أكثر من كونه كذلك، كان رجل أعمال معروفاً في بلاده والعالم. في كتابه “فن الصفقة”، يقول: “ابدأ بطلب كبير ثم حاول الوصول إليه من خلال الضغط المستمر”. هذه القاعدة التي نقلها ترامب من مؤسساته الاقتصادية إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، جعلها أساساً في تعامله مع الدول والشعوب، وهو النهج الذي يحاول تطبيقه أيضاً في علاقاته مع إيران.

غير أن طبيعة النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية تجعل سياستها الخارجية غير خاضعة لمبدأ “الصفقات” أو “التنازلات”، ولا تسمح بالخضوع لأي مقايضة سياسية، لكن حتى لو لم تكن تلك الطبيعة قائمة، فإن النظرة المنطقية لدعوات ترامب التفاوضية تجعل قبولها محفوفاً بشكوك عقلانية.

في التقييم المنطقي لأسباب تردّد إيران، تتصدر “انعدام الثقة” القائمة. وإذا ما تمّ البحث في جذور انعدام الثقة هذا، فيمكن العودة به تاريخياً إلى انقلاب أغسطس/آب 1953، غير أن أقرب التجارب الملموسة التي قوّضت الثقة بين طهران وواشنطن حدثت خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، بل وحتى في الأشهر الثمانية الأخيرة. وهما مرحلتان جعلتا الثقة الهشة أصلاً بين الطرفين أكثر هشاشة من أي وقت مضى. قبل 10 أعوام انسحب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران والقوى الستّ، رغم أنها كانت – وفق تعبير تلك القوى نفسها – من أكثر المفاوضات شمولاً، ومن أنجح الصفقات الدولية التي أُبرمت في العصر الحديث.

كما وافق الرئيس الأمريكي على الهجوم الذي شنّه بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، ضد إيران، في وقت كانت فيه واحدة من أهم جولات التفاوض في العالم تُعقد في عُمان وإيطاليا، وقد أُقيمت منها خمس جولات وتم تحديد زمان ومكان الجولة السادسة أيضاً. لكن التهديدات والحرب، ومن ثم إعادة فرض عقوبات مجلس الأمن على إيران من قبل الترويكا الأوروبية باستخدام آلية “سناب باك”، كانت آخر خندق للحوار، وهو الخندق الذي دمّره ترامب.

كان المطلب الأكبر لترامب من إيران هو “عدم امتلاك سلاح نووي”، وهو مطلب ينطوي في ذاته على قبول ضمني بإيران، إذ إن طهران لا تعتبر السلاح النووي وسيلة لتحقيق الأمن أو الردع، ولا ينسجم مع عقيدتها الفكرية والدينية. وقد أظهرت إيران حسن نيتها بقبولها التفاوض في هذا الشأن، من دون أن يكون هناك أي داعٍ لمزيد من الضغط. إلا أن هذا المطلب الكبير تغيّر تدريجياً، بضغط علني من نتنياهو وضغط خفي من جماعات الضغط الصهيونية في الكونغرس ومجلس الشيوخ والبيت الأبيض، ليصبح “تفكيك منشآت التخصيب الإيرانية”؛ وهي النقطة التي تعتبرها طهران خطاً أحمر منذ سنوات طويلة.

يعتقد ترامب اليوم أن بإمكانه، من خلال التهديد العسكري أو العقوبات الاقتصادية، إجبار إيران على الرضوخ لذلك المطلب، لكن هذا أمر مستبعد؛ لأن طهران دفعت ثمناً مادياً ومعنوياً باهظاً للوصول إلى هذا المستوى من التكنولوجيا النووية، وجعلت منه جزءاً من هويتها الاستراتيجية. ومع ذلك، لا ينتهي الأمر هنا، فربما يكمن جوهر القلق الإيراني في السؤال: “هل ستكون هناك مطالب أكبر بعد المطلب (أ)؟ هل الهدف التالي هو القدرات الدفاعية لإيران، ثم دورها الإقليمي؟”.

في ظل هذه الأجواء المليئة بالغموض والتهديد والعقوبات التي فرضها ترامب على إيران، ومع تجاهله التام لأصول وأعراف وآداب التفاوض – خصوصاً حين يتعلق الأمر بدولة مثل إيران – فإن المنطقين، “المنطق الجوهري” و”المنطق العقلاني” في طهران، يفرضان أن تمتنع البلاد عن الدخول في أي مفاوضات جديدة ما لم تتوافر، وفق تعبير وزير الخارجية عباس عراقجي، “شروط منصفة ومتوازنة تحكم أجواء الحوار”.

ومنذ فجر يوم 12 يونيو/حزيران من هذا العام، وبعد أن شنّ الكيان الإسرائيلي هجوماً على الأراضي الإيرانية، توصّلت طهران إلى قناعة بأن التفاوض مع الولايات المتحدة لا يخدم مصالحها. وبعد مشاركة واشنطن في هذا الهجوم وقصفها منشآت نووية داخل إيران، أصبح هذا الاستنتاج حاسماً. ثم جاءت مرحلة إعادة فرض عقوبات مجلس الأمن، حيث عرضت واشنطن على طهران تعليق تفعيل آلية “سناب باك” لبضعة أشهر مقابل تسليم اليورانيوم المخصّب الإيراني، لكن طهران أيقنت حينها أن أي حوار في ظل هذه الظروف لن يكون عديم الجدوى فحسب، بل سيكون محفوفاً بالمخاطر.

ما الذي قد يعيد طهران إلى طاولة الحوار؟

العودة إلى نقطة الصفر في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، وبناء هذه العلاقات مجدداً على أسس من الاحترام والإنصاف والعقل، قد تبدو في الأفق القريب أمراً بعيد المنال، لكنها تبقي الطريق الأقصر والأوضح الذي يمكن للرئيس الأمريكي، إذا سلكه فعلاً، أن يُظهر من خلاله أنه جاد في حلّ الخلافات مع طهران عبر الوسائل الدبلوماسية، لا عبر الضغط والتهديد.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى