جفاف النخيل الإيراني في آبادان… مأساة مزارعين لا يجدون الماء

النخيل في خوزستان ليس مجرد شجرة، والتمر ليس مجرد ثمرةٍ تُؤكل. فهنا، في أرض الشمس والأنهار، في آبادان وخرمشهر، النخلة كائن حيٌّ له روح، ورفيق حياةٍ للإنسان منذ الأزل.

ميدل ايست نيوز: النخيل في خوزستان ليس مجرد شجرة، والتمر ليس مجرد ثمرةٍ تُؤكل. فهنا، في أرض الشمس والأنهار، في آبادان وخرمشهر، النخلة كائن حيٌّ له روح، ورفيق حياةٍ للإنسان منذ الأزل. هي ظلّه في القيظ، وغذاؤه في القحط، وذاكرته في الفرح والحزن. لذلك، لا يُنظر إلى قطع نخلة في خوزستان كعملٍ عابر، بل كجريمةٍ تمسّ الكرامة والوجدان، وكأن حياة إنسانٍ أُزهقت.

السيد عدنان، مزارع نخيل من أبناء آبادان، رجل تجاوزته السنوات، لكن جفاف نخيله نال من قلبه أكثر مما نالت منه السنون. كلما يمر بين صفوف نخيله اليابسة، ينهار صوته وتغرق عيناه بالدموع. يقول لوكالة “إيلنا” بصوتٍ متهدج: “النخلة مثلنا تماماً، تنبض وتحس. عندما جاؤوا ليقطعوا نخلة بيتي، وقفت أمامهم وقلت: اقطعوا رأسي ولا تمسّوا نخلي.”

يشير السيد عدنان بيده إلى صفوف النخيل المائلة نحو الأرض، وينفجر بالبكاء: “لا ماء… والنخيل يحتضر. مياه البحر المالحة تسللت إلى نهر “بهمن شير”، ومياه الصرف تصب في النخل. الملوحة والطين يقتلانها ببطء، كما لو أن الحياة تُسحب من صدرها.”

نخيله، الذي كان يوماً مفخرة أسرته، بات مشهداً للحزن. أوراقه صفراء يابسة، ساقه متشققة، وثمارُه تقلصت حتى العدم. يقول محتجاً: “في آبادان وحدها احترقت وهلكت نحو عشرة آلاف نخلة. أصحاب النخيل لم يعودوا قادرين حتى على الوصول إلى مزارعهم. النخلة التي كانت تهبنا سبعين كيلوغراماً من التمر لا تعطي اليوم أكثر من عشرة بالكاد. الماء انقطع… والنخيل يحترق.”

في ثقافة الجنوب الإيراني، النخيل ليس مجرد محصول زراعي، بل كائن مقدس ورفيق حياة. زراعته طقس من الطهارة، يبدأ بالدعاء وينتهي بالشكر. يغتسل المزارع قبل أن يغرس الفسيلة، وتُقرأ عليها آيات البركة، كأنها مولود جديد. لذلك، حين سُجلت “المعرفة المحلية بزراعة وتربية النخيل في خوزستان” في قائمة التراث الوطني الإيراني، كان الأمر أكثر من اعتراف رسمي؛ كان اعترافاً بقدسية العلاقة بين الإنسان والأرض.

لكن اليوم، هذا الإرث المقدس في خرمشهر وآبادان وشادغان والأهواز يواجه موتاً بطيئاً. مياه الخليج المالحة تزحف نحو نهر بهمن شير، شريان الحياة الوحيد لبساتين خوزستان، فتغزو الجذور وتخنقها. مشهدٌ يفوق التصور، حتى لدى أكثر المزارعين صبراً. كثيرون باتوا يعيشون على حافة الانهيار، ومنهم السيد عدنان الذي لم يعد يميز بين دمعه وملوحة الأرض التي يبكي عليها.

موت أربعة ملايين نخلة في خوزستان خلال الحرب وما بعدها

يقول ماجد مطوريان، رئيس جمعية منتجي التمور في خوزستان، في حديثه لإيلنا: “النخلة إن عطشت عاماً، تذبل أربع سنوات. إنها كالأم، إن حرمت من الماء، تجفّ في عروقها الحياة.” ويضيف: “على المصانع والشركات التي تستنزف مياه خوزستان ثم تصرف مياهها الملوثة نحو النخيل أن تتقي الله. يجب أن نعيد للنخيل حقه من الماء في آبادان وخرمشهر وشادغان والأهواز، قبل أن نمحو آخر ظلٍ أخضر من هذه الأرض.”

ويتابع مطوريان بأسى: “العام الماضي، تضرر أكثر من 27 ألف مزارع بسبب ملوحة المياه وتدفق الصرف الصحي في مزارعهم، ولم يتلقَّ أحدٌ منهم مساعدة. خوزستان ثاني أكبر منتج للتمر في إيران، بأكثر من 41 ألف هكتار من النخيل وإنتاج سنوي يبلغ 370 ألف طن. ومع ذلك، تُعاني من العطش، وكأنها منسية من السماء.”

ثم يضيف بحرقة: “أعظم مأساة حلّت بنخيل خوزستان هي العطش… عطشٌ صنعته السياسات الخاطئة وسوء إدارة المياه. مياه البحر الزاحفة إلى الأنهار جعلت ملوحتها سُمّاً بطيئاً يقتل النخيل يوماً بعد يوم.”

في خوزستان نحو سبعة ملايين نخلة، لكن أربعة ملايين ماتت أو تموت ببطء منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). بعضها قُتل بالقذائف، وبعضها بالماء المالح الذي اخترق الجذور، وبعضها بخنق الصرف الصحي. يؤكد الخبراء أن استمرار هذا المشهد يعني أكثر من مجرد موت شجر؛ إنه محو لذاكرةٍ عمرها قرون، ونزيف جديد يدفع سكان القرى إلى الرحيل تاركين خلفهم أرضاً كانت يوماً جنةً من نخيل.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى