“فاتف” تخنق إيران… حلم طهران بكسر الحصار المالي يتبخر
أبقت مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، في جلستها يوم الجمعة الماضي، إيران ضمن قائمتها السوداء، بعدما رفضت تحفظات طهران على إقرار اتفاقية "باليرمو" بشأن تعريف الجماعات الإرهابية.

ميدل ايست نيوز: أبقت مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، في جلستها يوم الجمعة الماضي، إيران ضمن قائمتها السوداء، بعدما رفضت تحفظات طهران على إقرار اتفاقية “باليرمو” بشأن تعريف الجماعات الإرهابية. و”فاتف” هي هيئة رقابية دولية مقرها العاصمة الفرنسية باريس، ويهدف عملها إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وذكرت المجموعة على موقعها الرسمي أن إيران قدمت في سبتمبر/ أيلول الماضي تقريرا حول تصديقها على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود (باليرمو)، لكنها اعتبرت أن تحفظات طهران على الاتفاقية واسعة جدا، وأن تنفيذها الداخلي لا يتطابق مع المعايير المعتمدة لدى “فاتف”. وأضاف البيان أن إيران لم تطبق بعد أغلب بنود خطة العمل التي التزمت بها منذ عام 2016.
رفض إزالة اسم إيران من القائمة السوداء أثار جدلا داخليا، إذ استغل المحافظون القرار لمهاجمة الإصلاحيين الذين كانوا من أوائل الداعين إلى المصادقة على القوانين اللازمة للانضمام إلى “فاتف”، معتبرين أن إخفاق الحكومة في هذا الملف يؤكد صحة مواقفهم.
ومع تولي الرئيس الإصلاحي مسعود پزشكيان الرئاسة قبل عام وعودة الإصلاحيين إلى السلطة، أعلن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، في يناير/ كانون الثاني 2025، موافقته على إعادة دراسة انضمام إيران إلى اتفاقيتي “باليرمو” و”مكافحة تمويل الإرهاب (CFT)” في مجمع تشخيص مصلحة النظام، الذي أقر لاحقا الموافقة على اللوائح المتبقية الخاصة بهذا الملف مع تسجيل عدد من التحفظات. وبذلك كانت طهران تأمل بأن تمهد هذه الخطوة لخروجها من القائمة السوداء باستيفاء أهم شروط الانضمام إلى مجموعة “فاتف”.
لماذا لم تخرج إيران من القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي؟
خلفية الملف
منذ بدء مساعيها عام 2009 للانضمام إلى “فاتف”، مر الاقتصاد الإيراني بـ16 عاما من الاضطراب والتكاليف الباهظة في التحويلات المالية والتجارية، خصوصا في ظل العقوبات النفطية والمصرفية التي عمقت أزمته.
وقد أدرجت إيران رسميا على القائمة السوداء منذ عام 2007، ومع عام 2009 فرضت ضدها إجراءات مضادة حثت دول العالم على الحذر من التعامل المالي معها. وفي عام 2016، بعد أشهر من تنفيذ الاتفاق النووي المبرم عام 2015، أخرجت “فاتف” إيران من قائمتها السوداء، لكنها في عام 2020، وبعد منحها أربع مهل لإقرار التشريعات المتبقية، أعادتها إلى القائمة السوداء.
وخلال عهد الرئيس حسن روحاني، أعلنت الحكومة الإيرانية استعدادها للانضمام إلى “فاتف”، وقدمت لوائح تشمل أربعة تشريعات رئيسية، صودق على اثنين منها، هما تعديل قانون مكافحة تمويل الإرهاب ومكافحة غسل الأموال، فيما علق إقرار لائحتي الانضمام إلى “باليرمو” و”CFT” بسبب رفض مجلس صيانة الدستور آنذاك، قبل أن يوافق عليهما مجمع تشخيص المصلحة أخيرا.
إلا أن “فاتف” أعلنت في اجتماعها الأخير أنها لا تزال تبقي إيران على قائمتها السوداء ضمن “الدول عالية المخاطر”، إلى حين استكمال تنفيذ خطة العمل بالكامل. وطلبت المجموعة من إيران تنفيذ ستة إجراءات محددة تشمل: تجريم تمويل الإرهاب بشكل مناسب، بما في ذلك إلغاء الاستثناءات عن المجموعات التي “تحارب الاحتلال الأجنبي أو التمييز العنصري”. وتجميد الأصول الإرهابية تماشيا مع قرارات مجلس الأمن الدولي.
وضمان تطبيق نظام “اعرف عميلك” (CDD) بفعالية. إلى جانب ملاحقة مزودي خدمات التحويل المالي غير المرخصين. وتنفيذ اتفاقيتي “باليرمو” و”CFT” بما يتماشى مع معايير “فاتف”. وضمان أن التحويلات المصرفية تحتوي دائما على معلومات كاملة عن المرسل والمتلقي.
قال عضو غرفة طهران للتجارة محمد أميري إن الخلاف بين إيران و”فاتف” ليس تقنيا فقط، بل سياسي أيضا، موضحا أن تفعيل “آلية الزناد” (Snapback) من قبل فرنسا وبريطانيا وألمانيا في سبتمبر/ أيلول الماضي، وما تبعه من عودة العقوبات الأممية، جعل خروج طهران من القائمة السوداء أكثر صعوبة.
وأضاف أن توصيف إيران “دولةً مهددة للسلم والأمن الدوليين” بموجب قرارات مجلس الأمن المعاد تفعيلها، يشكل عقبة أمام استعادة علاقاتها مع النظام المالي العالمي، إلى جانب العقوبات الأميركية التي ما زالت سارية المفعول بشدة.
ويرى أميري أن تأخر إيران في اعتماد التشريعات المطلوبة فاقم الوضع، قائلاً: “السياسات الإصلاحية المتأخرة لا تمنح ثمرة، نحن نتخذ القرار حين يفقد جدواه الاقتصادية والسياسية”.
وأوضح أن هذا البطء جعل الاقتصاد والتجارة الإيرانيين معطلين طيلة ما بين 16 و17 عاماً، حتى عندما أُقرت القوانين لاحقاً، جرى ذلك في ظل مناخ دولي سلبي لا يسمح بالاستفادة من مكاسب الانضمام إلى فاتف.
وذكرت وكالة أنباء “فارس” الإيرانية المحافظة، الأحد، أن إبقاء إيران على القائمة السوداء جاء رغم تنفيذها الكامل لخطة العمل المكوّنة من 41 بندا، وإجراء إصلاحات في هياكلها الرقابية، والمصادقة على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، معتبرة أن القرار يعبر عن استمرار المعايير المزدوجة والنظرة التمييزية الغربية. وأضافت الوكالة أن الغرب كلما خطت طهران خطوة تقنية أو دبلوماسية يفتح على الفور ملفا جديدا لإبقاء الضغوط قائمة دون انقطاع.
ضرورة اقتصادية
يقول الخبير المالي الإيراني محسن جندقي إن إيران لم تعد تملك خيارا سوى الانضمام إلى مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، لأن جميع دول العالم تعتمد عليها في بنيتها الاقتصادية والتجارية، وأكد أن تأخير طهران في التصديق على اتفاقيتي “باليرمو” و”CFT” كان من أهم الأسباب التي أدت إلى تفعيل “آلية الزناد” ضدها من قبل الأطراف الأوروبية.
وأوضح أن المجموعة، رغم طبيعتها المالية، تتخذ أيضا قرارات سياسية، مضيفا: “ليس أمامنا مخرج سوى الانضمام إليها؛ حتى الحلفاء السياسيون لإيران، كروسيا والصين، أوصوا في السابق بضرورة أن تتعامل طهران بجدية مع هذا الملف وتلتزم بقوانينه”.
وبين أن فاتف “لا تقول شيئا سيئا في جوهر الأمر”، فهي تطلب من إيران أن تعمل وفق معايير مكافحة الجرائم المالية الدولية، بما في ذلك مكافحة الجريمة المنظمة وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وأن تضبط نظام تعاملاتها المالية وفق تلك المعايير، وهو أمر ضروري لإصلاح بنية الاقتصاد الوطني الإيراني.
وأضاف جندقي أن أحد أهم منافذ الخروج من العزلة الاقتصادية الحالية هو تفعيل العلاقات التجارية العالمية، مشيرا إلى أن الشركات الصينية التي تتعاون مع إيران رفعت كلفة التحويلات المالية بسبب استمرار إدراج إيران على القائمة السوداء، وقال إن أبسط تأثير للانضمام إلى المجموعة هو خفض كلفة التحويلات المالية وتسهيل عمليات التصدير والاستيراد، وهو ما يشجع المصارف والشركات الكبرى على التعامل مع إيران ويزيد ثقة السوق العالمية بها. لكنه حذر من الاعتقاد بأن مجرد الانضمام إلى فاتف كاف لمواجهة التحديات الاقتصادية، قائلا: “هذا الشرط ضروري لكنه غير كاف، إذ لا بد من تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية والتجارية ودبلوماسية الطاقة إلى جانب ذلك، حتى ينعكس أثر الانضمام فعليا على التجارة والصادرات ومعدلات النمو والإنتاج المحلي”.
انعكاسات على حياة الإيرانيين
تمتد الانعكاسات العملية للعقوبات والعزلة المالية إلى حياة الإيرانيين اليومية. فحتى أبسط المعاملات، من شراء تطبيق بسيط إلى تحويل بضع دولارات، أصبحت معقدة ومكلفة وغير ممكنة أحيانا. يقول المبرمج المستقل آرش همايوني من طهران: “بدأت المشكلة حين تلاشت إمكانية الوصول لأبسط الخدمات. لا أستطيع اليوم شراء اشتراك تطوير مثل Xcode أو الدفع في GitHub بسهولة”، مضيفا أن البطاقة المصرفية الإيرانية غير مقبولة في الأنظمة الدولية، فيضطر للجوء إلى أصدقاء في الخارج أو التعامل نقدا بالدولار، وهو أمر مرهق ومحفوف بالمخاطر. وأوضح أن مجرد شراء برنامج مساعد بسعر 40 دولارا قد يتطلب عملية عبر صراف عملات رقمية مع عمولة وتأخير كبيرين، وأحيانا يجمد الحساب بسبب منشأ التحويل من إيران. ويرى أن العقوبات ليست فقط ضغوطا اقتصادية، بل شعورا بالعزلة التكنولوجية؛ إحساس بأن العالم يتقدم ونحن واقفون خلف جدار غير مرئي، والعقل الإيراني يجد أحيانا طرقا للالتفاف عليها لكن التكاليف باهظة جدا”.
أما التاجر بهزاد، وهو مستورد صغير للأدوات الإلكترونية، فأوضح أن كل التحويلات التجارية باتت تمر عبر وسطاء غير رسميين، بتكاليف مرتفعة تصل إلى 10% أو أكثر من قيمة الصفقة. ويروي أنه خسر قبل خمسة أشهر خمسة آلاف دولار بعد تعطل عملية تحويل بالعملات المشفرة، دون أن يجد جهة يمكنه الشكوى إليها، واصفاً عمله بأنه “نشاط في ظل مخاطر دائمة وغير قابلة للتنبؤ”.
الانعزال المالي امتد أيضا إلى القطاع الأكاديمي والبحثي. فمع قطع القنوات المصرفية، لم يعد ممكنا دفع رسوم العضوية في المجلات العلمية أو المشاركة في المؤتمرات الدولية. وانقطعت مشاريع التعاون مع جامعات أوروبية وآسيوية بسبب استحالة تنفيذ التحويلات المالية. كما حرم طلاب إيرانيون من المنح الدراسية لأن التحويلات جمدت، إلا إذا وجدوا طرقا خارج البلد لتجاوز هذه المعضلة.
ويقول المواطن حميد عظيمي (50 عاما)، إن ابنته تدرس الطب في المجر، وإن تحويل المبلغ الشهري، وقدره 500 يورو، بات عملية صعبة مليئة بالقلق والانتظار. وأضاف: “أستخدم الصرافين أو العملات الرقمية، لكن المال قد يضيع في الطريق أو يغلق حساب الوسيط. أحيانا أدفع مئة دولار عمولة من أجل تحويل بسيط”، ويرى أن العقوبات المالية لا تلحق الضرر بالحكومة ومواردها فقط، بل أصابت نسيج الحياة اليومية للإيرانيين، مؤكدا أن كل أسرة باتت تدفع ثمن هذه العزلة المالية قبل الدولة نفسها.



