المشهد الانتخابي لدى الأحزاب الكردية.. تحولات بآليات التعبئة واستراتيجيات السيطرة

كشفت نتائج انتخابات مجلس النواب العراقي لعام 2025 في إقليم كردستان عن استمرار الهيمنة التقليدية للحزبين الكرديين الرئيسيين، لكنها أظهرت أيضاً أنشطة ربما تعد جديدة تعكس تحولات في آليات التعبئة الانتخابية واستراتيجيات السيطرة السياسية.

ميدل ايست نيوز: كشفت نتائج انتخابات مجلس النواب العراقي لعام 2025 في محافظات إقليم كردستان والمناطق الخاضعة للمادة 140 وما رافقتها من مظاهر، عن استمرار الهيمنة التقليدية للحزبين الكرديين الرئيسيين، لكنها أظهرت أيضاً أنشطة ربما تعد جديدة تعكس تحولات في آليات التعبئة الانتخابية واستراتيجيات السيطرة السياسية. تكتسب هذه النتائج أهمية مضاعفة في ضوء استمرار الأزمة السياسية في الإقليم، حيث مرت سنة كاملة على انتخابات برلمان كردستان دون التوصل إلى تشكيل حكومة جديدة، مما يجعل نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية عاملا محوريا ومؤثرا في إعادة رسم موازين القوى وتحديد مستقبل المشهد السياسي الكردستاني.

أولاً: محافظات الإقليم

سيزيف أو إعادة إنتاج الهيمنة التقليدية

الجغرافيا السياسية للنفوذ الحزبي

تؤكد نتائج الانتخابات استمرار التقسيم الجغرافي التقليدي للنفوذ السياسي في إقليم كردستان العراق. الحزب الديمقراطي الكردستاني يحافظ على سيطرته شبه المطلقة على محافظتي أربيل ودهوك، فيما يواصل الاتحاد الوطني الكردستاني هيمنته على السليمانية. هذا التقسيم الجغرافي ليس مجرد نتيجة لتفضيلات انتخابية حرة، بل هو انعكاس لبنية سلطة متجذرة تاريخيا، تجمع بين النفوذ المالي والعسكري والرمزي.

الرأسمال الرمزي والبنية العشائرية

تتجلى مقاربة بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي حول “الرأسمال الرمزي” بوضوح لافت في محافظة دهوك، حيث يشكل الطابع العشائري التقليدي أداة فعّالة للتعبئة الانتخابية. استثمر الحزب الديمقراطي في علاقاته التاريخية مع الرؤساء والزعامات العشائرية، مستفيداً من رأس المال الرمزي الذي يملكه هؤلاء داخل مجتمعاتهم القبلية.

هذا الرأسمال الرمزي- المتمثل في المكانة الاجتماعية والاحترام والنفوذ المعنوي لرؤساء العشائر والزعامات التقليدية – دائما ما يُترجَم إلى قدرة كبيرة على توجيه الأصوات الانتخابية لأفراد العشيرة. ليس الأمر مجرد “شراء أصوات” بالمعنى المباشر فقط، بل هو تفعيل لمنظومة ولاءات اجتماعية متأصّلة، حيث يُنظر للتصويت باعتباره جزءا من الالتزام العشائري والولاء للزعامة التقليدية مع إذكاء وتفعيل الشعور السيكولوجي بالهزيمة والعار لأفراد العشيرة إذا لم يفز مرشح العشيرة وقد تجلّى ذلك بكل وضوح عندما قامت عشيرة السليفاني بقطع طريق دهوك زاخو لساعات متواصلة – سنعود إلى هذه النقطة لاحقا – عند معرفتهم بأن مرشحهم لم يفز في الانتخابات. إيقاد هذا الشعور لدى فرد العشيرة قد يجعله يخرج إلى الشارع منتفضا لكرامة العشيرة التي “هُدرت”.

الأحزاب الكردية في انتخابات العراق البرلمانية

استمرار التقسيم الجغرافي التقليدي للنفوذ السياسي في إقليم كردستان العراق

السلطة المالية وشراء الأصوات

لا يمكن تجاهل الدور المحوري للمال في تحديد النتائج الانتخابية. فقد استخدم الحزبان الحاكمان وكذلك المرشحون من ذوي المال والجاه، مواردهم المالية الضخمة لشراء الأصوات بشكل مباشر. المرشحون الأثرياء، الذين يمتلكون ثروات شخصية كبيرة غالبا ما تكون نتاج ارتباطهم بالسلطة، دفعوا بسخاء لضمان فوزهم. وقد استفحلت هذه الظاهرة بشكل ملفت غير عابئة للبعد الأخلاقي سواء من طرف من دفعوا المال أم من طرف الأشخاص الذين استلموه، بل وصل الأمر بالكثيرين أن أعلنوا أن من سيدفع أكثر سنصوت له وهذا يعكس مدى الإحباط واليأس لدى الناخب للدور الذي تلعبه الانتخابات في التغيير السياسي والمعيشي للمواطن.

تحوّل هذه الظاهرة الانتخاباتِ من آلية للتمثيل الديمقراطي إلى سوق سياسية، حيث تُباع الأصوات وتُشترى كسلعة، مما يُفرِغ العملية الانتخابية من مضمونها كتعبير حر عن إرادة الناخبين. في ظل ضعف الرقابة وغياب المحاسبة، تصبح الثروة المالية أهم مؤهل للفوز بالمقاعد النيابية.

القمع السياسي وغياب الرموز البديلة

شكّل اعتقال بعض رموز المعارضة، كزعيم حركة الجيل الجديد، ضربة قوية لأداء الحركة الانتخابي. هذه الخطوة أبعد من أن تكون مجرد إجراء قانوني، بل كانت استراتيجية مدروسة لإضعاف منافس سياسي يمثل خطابا إصلاحيا ينتقد الفساد وهيمنة الحزبين التقليديين.

غياب القائد الرمز له أثر سيكولوجي عميق على الناخبين. فالزعيم يمثل نقطة التقاء رمزية للأمل بالتغيير، وغيابه يخلق فراغا لا يمكن لأي هيكل تنظيمي أو برنامج سياسي أن يملأه بسهولة وبخاصة في المجتمعات التقليدية التي غالبا ما توصف بمجتمعات القطيع. النتيجة كانت تراجعاً ملحوظاً في أصوات حركة الجيل الجديد مقارنة بالدورة السابقة مع صعود تيار الموقف الوطني الذي يتزعمه علي حمه صالح.

الأمر ذاته ينطبق على اعتقال لاهور شيخ جنكي وغيره من الرموز السياسية المعارضة. هذه الاعتقالات ترسل رسالة واضحة وهي أن المعارضة لها ثمن باهظ، مما يخلق مناخاً من الخوف يحدُّ من الحماس للتغيير السياسي ويدفع الناخبين نحو “الخيار الآمن” المتمثل في الأحزاب الحاكمة.

النفوذ العسكري والأمني كأداة للسيطرة

لا نستطيع إغفال الدور الحاسم للنفوذ العسكري والأمني للحزبين الحاكمين. فإن سيطرتهما على قوات البيشمركة والأجهزة الأمنية تمنحهما قدرة على التحكم في الفضاء العام، مراقبة النشاط السياسي، وإذا لزم الأمر، ممارسة الضغط المباشر أو غير المباشر على الناخبين بل القوات العسكرية والأمنية ذاتهما في ترجيج أصوات مرشح دون آخر وبخاصة مرشحي الكوتا. هذا الاحتكار للقوة المسلحة يجعل من المنافسة الانتخابية عملية غير متكافئة منذ البداية.

ثانياً: مناطق مادة 140

كركوك والتعقيدات الإثنية

تبقى كركوك، المدينة متعددة الإثنيات والغنية بالنفط، معقلاً للاتحاد الوطني الكردستاني. هذه الهيمنة تعكس جذورا تاريخية عميقة، حيث لعب الاتحاد دورا محوريا في النضال الكردي لإعادة كركوك إلى “كرديتها” بعد سياسات التعريب التي مارسها نظام صدام حسين.

لكن الحفاظ على هذا النفوذ في مدينة متعددة الإثنيات يتطلب أكثر من مجرد خطاب قومي. يتضمن استراتيجيات تحالف مع قطاعات من التركمان والمسيحيين، وإدارة حساسة للتوترات الإثنية مع المكون العربي. النتائج الانتخابية تشير إلى نجاح الاتحاد الوطني في الحفاظ على هذا التوازن الدقيق، على الأقل في الوقت الراهن.

نينوى والاختراق الاستثنائي للديمقراطي الكردستاني

الأكثر لفتا للانتباه هو حصول الحزب الديمقراطي الكردستاني على المركز الأول من حيث عدد الأصوات -مرّة أخرى نحن نتحدث عن الأصوات- في محافظة نينوى، رغم كونها منطقة ذات أغلبية عربية سنية بالأساس مع وجود مكونات كردية وتركمانية ومسيحية. لهذا الإنجاز الاستثنائي أبعاد متعددة، يمكن إيجازها فيما يلي:

1-العلاقات التاريخية مع العشائر العربية:

بنى الحزب الديمقراطي، وخصوصا من خلال قيادة عائلة البارزاني، علاقات عميقة وطويلة الأمد مع العشائر العربية في نينوى. هذه العلاقات تعود لعقود من التعاون والمصالح المشتركة، وقد تعززت خلال حقبة ما بعد 2003.

2- التفرّق العربي السُني:

تعدّد القوائم العربية السنية وانقساماتها الداخلية أدى إلى تشتت الأصوات، مما مكّن الحزب الديمقراطي، بوصفه قوة موحدة ومنظمة، من الاستفادة من هذا التشرذم والفوز بالمركز الأوّل حتى لو لم يكن يمثل الأغلبية المطلقة، كما أن قائمة الديمقراطي الكردستاني حصلت على أصواتٍ عربية في مناطق سيطرتها بنينوى لسببين: أن مرشحين عرباً من هذه المناطق ترشّحوا ضمن القائمة والثاني هو النفوذ والسيطرة التي يبسطها الحزب على تلك المناطق، ما يسهّل عمله.

3- القوة المالية والتنظيمية:

يمتلك الحزب الديمقراطي آلة انتخابية محترفة وموارد مالية ضخمة، استطاع من خلالها تمويل حملة انتخابية ضخمة في نينوى، تضمنت شراء الأصوات، ودعم المرشحين المحليين، وتقديم الخدمات الآنية للمجتمعات المحلية.

4-الاشتغال على الرأسمال الرمزي:

حرص الحزب الديمقراطي على اختيار مرشحين من عوائل ذات سمعة وصيت كبير في المنطقة، هذه العوائل تمتلك رأسمالا رمزيا يوازي أو قد يفوق رأسمالها المادي. في مجتمعات تقليدية يكون تأثير الرأسمال الرمزي أكبر بكثير من تأثير الرأسمال المادي.

5- المتغير التركي: النفوذ الجيوسياسي الصاعد:

ربما يمكن فهم نتائج نينوى بأخذ الاعتبار الدور المتزايد لتركيا مع ضعف النفوذ الإيراني في العراق، خاصة في أعقاب التطورات الإقليمية الأخيرة حيث وجدت تركيا فرصة لتوسيع نفوذها.

العلاقات القوية بين تركيا والحزب الديمقراطي الكردستاني تشكل أحد محاور هذا النفوذ. أنقرة، التي تنظر بعين الريبة إلى أي نفوذ إيراني أو مقرب من إيران (كالاتحاد الوطني تاريخيا)، تدعم الديمقراطي كحليف استراتيجي. هذا الدعم يتجاوز البعد الكردي ليشمل التأثير على التركمان العراقيين أيضا، الذين تعتبرهم تركيا جزءا من دائرة نفوذها الثقافي.

الضغوط التركية على التركمان، والموارد المالية والإعلامية التي تقدمها أنقرة، ربما دفعت قسما من التركمان في نينوى للتصويت لصالح الحزب الديمقراطي أو لصالح مرشحين موالين لتركيا، مما عزز من موقع الديمقراطي في هذه المناطق.

ثالثاً: توظيف العشائر

من الولاء الاجتماعي إلى الأداة السياسية

من أخطر الظواهر التي ميّزت الانتخابات هو التوظيف المكثف والممنهج للبنية العشائرية كأداة انتخابية. استخدم الحزبان الحاكمان، وبخاصة الحزب الديمقراطي في دهوك، نفوذه المالي والسياسي لتفعيل شبكات الولاء العشائري لصالحه. لكن هذا التوظيف لم يقتصر على الفئات التقليدية المرتبطة بالعشيرة، بل امتد ليشمل فئات كان يُفترض أنها تجاوزت هذا النمط من الانتماءات.

استقطاب الشباب والمثقفين، انهيار الحداثة أمام التقليد

الشباب والمثقفون، الذين يُنظر إليهم تقليديا كحاملين لقيم الحداثة والمواطنة المدنية، وجدوا أنفسهم مُجبرين أو مُستقطبين للتصويت وفق انتماءاتهم العشائرية. هذه الظاهرة تكشف عن فشل مشروع بناء مؤسسات الدولة المدنية في إقليم كردستان. فبدلا من أن تُضعف التعليم والتحضر والانفتاح على العالم من قوة الولاءات العشائرية، نشهد العكس، عودة قوية للعشيرة كإطار مرجعي للهوية السياسية حتى بين الفئات الأكثر تعليما.

الضغوط العشائرية على الشباب والمثقفين اتخذت أشكالا متعددة من الضغط المعنوي والاجتماعي “الخروج عن إجماع العشيرة خيانة”، إلى التهديد غير المعلن بالنبذ الاجتماعي. يجد الفرد نفسه محاصرا بين قناعاته السياسية وانتمائه العشائري، وفي معظم الحالات، ينتصر الخوف من العزلة الاجتماعية على القناعة السياسية، وقد وصل الأمر إلى حد أن وجدت عائلة في إحدى قرى قضاء عقرة أن تضطر للرحيل عن القرية بعدما صوتت لمرشح آخر غير مرشح العشيرة.

هذا يعني أن المشروع التحديثي، الذي كان يُفترض أن يبني مواطنا حرا يصوت بناء على قناعاته السياسية، قد فشل أمام قوة البنى التقليدية المدعومة بالمال والنفوذ السياسي.

حادثة عشيرة السليفاني، عندما تحتجز العشيرة المدينة كرهينة

لساعات طويلة، قطع أبناء عشيرة السليفاني لطريق زاخو- دهوك؛ بعد معرفتهم بعدم فوز مرشح العشيرة، في حالة تمثّل نموذجا صارخا لخطورة تسييس العشائر والاستعانة بها في الانتخابات. هذا الفعل لم يكن مجرد احتجاج سياسي عادي، بل كان تعبيرا عن منطق عشائري يرى في خسارة مرشحه إهانة جماعية للعشيرة بأكملها تستوجب الرد.

فقد تم تحويل المواطنين العاديين، الذين لا علاقة لهم بنتائج الانتخابات، إلى رهائن لساعات طويلة في ازدحام مروري خانق، كشف عن استهتار فاضح بالمصلحة العامة. الطريق، الذي يُفترض أن يكون مساحة عامة مشتركة، تحوّل إلى ساحة لفرض إرادة عشائرية خاصة.

الأخطر من الحادثة نفسها هو الحل الذي انتهت به حيث لم تتدخل قوات الأمن لفتح الطريق وإنهاء الفوضى بحزم، بل جاء مسؤول من الحزب الديمقراطي للتفاوض مع العشيرة ووعدهم بأن مرشحهم سينال منصبا مرموقا إذا لم يفز! هذا الحل يحمل دلالات كارثية، منها:

1- شرعنة الابتزاز العشائري:

الرسالة الواضحة هي أن العشائر يمكنها فرض إرادتها من خلال التهديد بالفوضى، وأن السلطة مستعدة للخضوع لهذا الابتزاز.

2- تحويل الانتخابات إلى مسرحية:

إذا كان كل من لم يفز في الانتخابات سيحصل على منصب مرموق بفعل الضغط العشائري، فما الجدوى من العملية الانتخابية أصلاً؟ هذا الأمر يجعل من الانتخابات مجرد واجهة لتوزيع المناصب وفق معادلات القوة العشائرية، وليس وفق إرادة الناخبين.

3- ضعف سلطة الحكومة:

الحكومة التي تتفاوض مع عشيرة بدلا من فرض القانون هي حكومة ضعيفة فقدت احتكارها الشرعي للعنف والسلطة، وتحوّلت إلى مجرد وسيط بين قوى عشائرية متنافسة. وإذا ما تذكرنا أحداث عشيرة الهركي قبل أشهر فسوف ندرك جيداً أنّ عرض العضلات هذا يمثّل تصعيداً أخطر في مسار تضخّم النفوذ العشائري. عندما تصل الأمور إلى مرحلة النزال شبه المسلح مع الحكومة، فهذا يعني أننا أمام أزمة حقيقية في بنية مؤسسات الحكومة.

إحدى المبادئ الأساسية للدولة الحديثة، كما صاغها ماكس فيبر، هي احتكارها الشرعي لاستخدام العنف. عندما تتحدى عشيرة الحكومة بشكلٍ عسكري أو شبه عسكري، فهذا يعني تآكل هذا الاحتكار وتحوّل العشائر إلى كيانات شبه سياسية تمتلك قوة مستقلة ترى أن من حقها اللجوء إلى العنف لتظفر بما تسعى إليه.

كل حادثة يتم فيها التراجع أمام الضغط العشائري تخلق سابقة تشجع عشائر أخرى على سلوك النهج نفسه وقد يمتد تأثير ذلك إلى العراق كلّه. النتيجة هي دوّامة من التصعيد، حيث تحاول كلُ عشيرة إثبات قوتها وانتزاع امتيازاتها من خلال التهديد والضغط.

تمزيق النسيج الاجتماعي المدني

تسييسُ العشائر وتحويلها إلى أدوات انتخابية يُحدث أضراراً عميقة في النسيج الاجتماعي، منها:

1- تعميق الانقسامات الاجتماعية: فبدلا من أن يكون المجتمع مكونا من مواطنين أفراد متساوين، يتحول إلى فسيفساء من الجماعات العشائرية المتنافسة، كلّ منها تسعى لانتزاع نصيبها من السلطة والموارد. هذا يعمّق الانقسامات ويُضعِف أيّ إحساس بالهوية الوطنية المشتركة.

2- إضعاف المؤسسات المدنية: العشائرية السياسية تُضعف المؤسسات المدنية الحديثة – الأحزاب السياسية القائمة على برامج، منظمات المجتمع المدني، النقابات المهنية – لأنها تعود بالولاءات إلى أطر ما قبل حداثية. لماذا ينضم المواطن إلى حزب سياسي أو منظمة مدنية إذا كانت عشيرته توفر له الحماية والامتيازات؟

3- خلق مجتمع ذي طبقتين: من لديه انتماء عشائري قوي يحصل على حماية ونفوذ، ومن لا ينتمي إلى عشيرة مؤثرة (المهاجرون، سكان المدن من الجيل الثاني والثالث، المثقفون المستقلون) يجدون أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية. هذا يخلق طبقية اجتماعية قائمة على الانتماء العشائري بدلاً من الجدارة أو المواطنة.

رابعاً: شراء أصوات الناخبين

الانحدار الأخلاقي: عندما يصبح الصوت سلعة

إلى جانب توظيف العشائر، تمثّل ظاهرة بيع الأصوات الوجه الآخر لأزمة الديمقراطية في الإقليم. الناخب الذي يبيع صوته مقابل مبلغ مالي تافه لا يبيع مجرد ورقة اقتراع، بل يبيع كرامته السياسية، ومستقبله ومستقبل أبنائه، وحقه في المحاسبة والتغيير ولهذه الظاهرة تداعيات خطيرة أوّلها تحويل المواطن إلى مجرد سلعة، حيث يحوّل بيع الصوت العلاقة بين المواطن والسياسي من علاقة تمثيل سياسي إلى علاقة سلعوية بحتة. السياسي لا يُحاسَب على أدائه أو برنامجه، بل على قدرته على “الدفع” للناخبين. والناخب لا يختار ممثله بناء على قناعات سياسية، بل بناء على من يدفع أكثر. الناخب الذي يبيع صوته غالبا ما يكون فقيراً أو محتاجا، وهذا الفقر هو نتيجة مباشرة لفساد الطبقة السياسية التي سرقت موارد البلاد أو أساءت إدارتها. بيع الصوت يُديم هذه الدائرة. الفقر يدفع الناخب للبيع، والبيع يُعيد انتخاب الفاسدين، والفاسدون يُعمقون الفقر. إنها دوامة شريرة لا مخرج منها إلا بوعي جماعي يرفض هذه المعادلة.

كما أن بيع الأصوات يعرّض المنظومة الأخلاقية الجمعية للتآكل أكثر، فعندما يصبح بيع الأصوات ظاهرة واسعة ومعلنة، دون أيّ خجل أو إخفاء، فهذا يعني أن الفساد تطبّع وأصبح جزءاً مقبولاً من الثقافة السياسية. الناس لا يرون في بيع أصواتهم عملا مشينا، بل فرصة للحصول على بعض المال من سياسيين سيسرقون على أي حال. هذا المنطق الانهزامي- الكل يسرق، فلماذا لا أحصل على نصيبي؟ – يعكس فقدانا للأمل بإمكانية التغيير، واستسلاما للأمر الواقع الفاسد. إنه موت للروح المدنية والحس بالمسؤولية الجماعية. في مجتمع معافى أخلاقيا، بيع الصوت سيكون مصدر عار اجتماعي، والشخص الذي يبيع صوته سيُنبذ أو يُنتقد من محيطه. لكن عندما يصبح البيع ظاهرة عامة، تختفي المحاسبة الاجتماعية. بل على العكس، من لم يبِع صوته قد يُنظر إليه كـ “ساذج” فوّت على نفسه فرصة ثمينة.

تقع المسؤولية الكبرى عن هذا الانحدار الأخلاقي، على عاتق الطبقة السياسية الحاكمة؛ لأنّ المواطن العادي عندما يرى السياسيين وهم يسرقون مليارات الدنانير دون محاسبة، ويعيشون حياة ترف فاحش بينما الغالبية تعاني من الفقر والبطالة، فإن الرسالة التي تصل إليه واضحة وهي أن الفساد ربحٌ والنزاهة عقاب. هذا التناقض الصارخ بين الخطاب الأخلاقي الذي تتبناه هذه النخب وممارساتها الفعلية يهدم أي قيمة للمبادئ في المجتمع.

ولا يمكن لوم المواطن على قبوله هذه الصفقة “المهينة” التي لا سبيل أمامه سواها للحصول على لقمة العيش أو فرصة عمل؛ لأنّ النخبة السياسية حوّلت العملية الديمقراطية من حقٍ مقدسٍ إلى سلعة رخيصة تُباع وتُشترى في سوق الابتزاز السياسي. وبذلك، فإن شراء الأصوات ليس مجرد جريمة انتخابية، بل هو تعبير عن فشل أخلاقي شامل أسسته وغذّته هذه الطبقة الحاكمة على مدى عقود من الاستحواذ على السلطة والثروة.

خامساً: تداعيات نتائج الانتخابات على الأزمة السياسية في الإقليم

الاتحاد الوطني منتظرا نتائج انتخابات مجلس النواب العراقي

في مناسبة سابقة، أكّد مسعود البارزاني أن الاتحاد الوطني الكردستاني يماطل في مفاوضات تشكيل حكومة الإقليم، منتظراً نتائج الانتخابات التشريعية الاتحادية، ورفض البارزاني أيّ تأجيل لتشكيل حكومة الإقليم لما بعد انتخابات مجلس النواب العراقي، معتبرا هذا الأمر غير مقبول نهائياً. لكن ما أصبح واقعا هو أن تشكيل الحكومة الجديدة في الإقليم بات مصيرها محتوماً بعد انتخابات مجلس النواب العراقي وربما يمتد إلى ما بعد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.

التداعيات المتوقعة

1- تعقيد الصفقة السياسية: يتحدّث مراقبون عن أن الحزبين سيتمكنان من تقاسم المناصب الحكومية في الإقليم وفي الحكومة الاتحادية في بغداد ضمن صفقة واحدة أكثر وضوحا كما حصل مرارا وهذا يعني أن التفاوض أصبح أكثر تعقيدا.

2- قوة التفاوض للديمقراطي الكردستاني: بتفوّق الديمقراطي الواضح في كلا الاقتراعَين، سيكون موقفه التفاوضي أقوى، مما قد يضغط على الاتحاد الوطني للقبول بمكتسبات أقل من طموحاته، لكن المعضلة تكمن في أن الطرف الأضعف الذي هو الاتحاد الوطني، لا يرضى وفق ما حصل عليه من مقاعد، إنما يعتمد منطق القوة وما هو على أرض الواقع من نفوذ ومال وعلاقات.

3- التجاذبات الإقليمية: هناك تدخلات خارجية من دول معنية في الشرق الأوسط وجهات سياسية في بغداد تضغط على الطرفين بما يضمن مصالحها. التجاذبات بين تركيا (الداعمة للديمقراطي) وإيران (الداعمة للاتحاد الوطني) ستؤثر على المعادلة، خاصة مع نتائج الانتخابات العراقية التي قد تعيد ترتيب التحالفات الإقليمية.

4- احتمال التسريع أو المزيد من التأخير: وضوح النتائج في كلا الانتخابين يفرض واقعاً لا يمكن تجاهله، فقد يُسّرع من تشكيل الحكومة، حيث ظهرت مؤشرات تقارب بين الحزبين للخروج من أزمة تشكيل الحكومة، كما أن هناك ضغطاً شعبياً ودولياً لإنهاء الفراغ الحكومي. أما تعقيد المفاوضات التي تشمل الآن مستويين (الإقليم وبغداد) وإصرار الاتحاد الوطني على تحقيق المشاركة الحقيقية في إدارة الإقليم وليس المشاركة الشكلية فقط – كما يقول – والحاجة لتشكيل الحكومة الاتحادية أولاً لتحديد الحصص النهائية؛ فقد يتسبب في تأخير تشكيل الحكومة الجديدة لإقليم كردستان.

نتائج انتخابات مجلس النواب العراقي ستكون محورية في حسم مسألة تشكيل حكومة الإقليم. الاحتمال الأرجح هو أن تُحل القضيتان معا ضمن صفقة سياسية شاملة تشمل تقاسم المناصب في الإقليم وبغداد، لكن هذا قد يستغرق وقتاً إضافياً حتى تتضح معالم التحالفات في الحكومة الاتحادية الجديدة، مما يعني استمرار الجمود السياسي في كردستان لعدة أشهر إضافية، ما لم تحدث تطورات مفاجئة تدفع الحزبين نحو التوافق السريع.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العالم الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى