العراق.. التدخين بين النساء ظاهرة تتجاوز العيب الاجتماعي

يأخذ مشهد التدخين بين النساء في العراق منحى تصاعدياً لافتاً منذ سنوات، ويشكل ظاهرة تمضي أبعد من كونها مجرد سلوك فردي إلى تحوّل اجتماعي يعكس تغيراً في القيم والتقاليد التي كانت تعتبر أن تدخين النساء عيب اجتماعي.

ميدل ايست نيوز: يأخذ مشهد التدخين بين النساء في العراق منحى تصاعدياً لافتاً منذ سنوات، ويشكل ظاهرة تمضي أبعد من كونها مجرد سلوك فردي إلى تحوّل اجتماعي يعكس تغيراً في القيم والتقاليد التي كانت تعتبر أن تدخين النساء عيب اجتماعي. ويُقلق ذلك المؤسسات الصحية والباحثين الاجتماعيين، فبين شوارع ومقاهي المحافظات، وبين مكاتب الدوائر الرسمية والسيارات الخاصة، بات من المألوف رؤية نساء وفتيات يدخنَّ السجائر التقليدية أو الإلكترونية.

يقول المسؤول في وزارة الصحة باسم الغراوي لـ”العربي الجديد”: “نتابع بقلق هذا التغيّر، خصوصاً مع ظهور مؤشرات إلى بدء انتشار التدخين في فئات عمرية صغيرة من بينها طالبات جامعات ومدارس ثانوية وموظفات”، وليست المشكلة الأساسية التدخين نفسه فحسب، بل سرعة انتشاره بين الفتيات، إذ نلاحظ أن السلوك أصبح مقبولاً اجتماعياً في بعض البيئات، ما يشكل خطراً مضاعفاً، ويشدد على أن “التدخين عند النساء له مخاطر صحية كبيرة، خصوصاً على مستوى الجهاز التنفسي والقلب، إضافة إلى تأثيراته الخطيرة على الحمل والإنجاب، وتخطط الوزارة لإطلاق حملات توعية تستهدف النساء، ولا سيّما الشابات، للحدّ من انتشار الظاهرة قبل أن تصل إلى مستويات يصعب السيطرة عليها”.

وتُقدر جهات حكومية ورقابية مختلفة نسبة المدخنين في العراق بنحو 35%، وإنفاق العراقيين نحو مليونَي دولار يومياً على التبغ، لكن تبقى هذه الأرقام وغيرها مجرد تقديرات غير مبنية على إحصاءات علمية أو ميدانية واضحة.

وحتى سنوات قريبة كان المجتمع العراقي ينظر إلى تدخين المرأة باعتباره سلوكاً مرفوضاً اجتماعياً لا يتناسب مع القيم السائدة، وترتبط ممارسته غالباً بصور نمطية سلبية، لكن هذه الحدود بدأت تتآكل تدريجياً مع تغيّر أنماط الحياة، وزيادة انخراط النساء في المجال العام، وافتتاح مقاهٍ عصرية تستقبل الشابات، إضافة إلى الانتشار الواسع للسجائر الإلكترونية التي ساعدت في كسر حاجز الوصمة الاجتماعية.

يقول أبو مصطفى، صاحب مقهى ترتاده فتيات وسط بغداد، لـ”العربي الجديد”: “ارتفعت نسبة المدخنات على نحوٍ لافت وغير مسبوق في الفترة الأخيرة، في حين كنّ نادرات قبل نحو خمس سنوات، وربما تخجل الواحدة منهنّ من طلب سيجارة أو نارجيلة. تغير الوضع تماماً اليوم، إذ تدخن الفتيات علناً، وبعضهنّ يأتين إلى المقهى خصيصاً لتدخين سجائر إلكترونية أو نارجيلة بنكهات معينة. والظاهرة ليست حكراً على فئة اجتماعية دون غيرها، بل تشمل طالبات جامعيات وموظفات وربات بيوت أيضاً، وهذا التحوّل طبيعي في الحياة الحديثة، ويعكس تحرّر الفتيات من القيود التقليدية القديمة”.

وعموماً تحوّلت المقاهي من مجرد استراحة لتناول الشاي والقهوة بين كبار السن، إلى مكان للّقاء بين الصديقات واجتماع الناشطات والعاملات وإقامة الحفلات وأعياد الميلاد والمناسبات النسائية الخاصة، ما من شأنه أن يعيد ثقة المرأة في نفسها وفي المجتمع أيضاً، كما قال الناشط أوس إسماعيل الخفاجي، في حديث سابق لـ”العربي الجديد”، الذي وصف الظاهرة بأنها “إيجابية”.

ولا تختلف خدمات تلك المقاهي عن غيرها لناحية ما تقدمه للزبائن، لكنّها بطبيعة الحال توفر الخصوصية، ما يجعلها مكاناً تلتقي فيه الطالبات الجامعيات والموظفات وربات البيوت. وتوظف هذه المقاهي النساء أيضاً مع عبارة تشير إلى أن المكان مخصص للنساء فقط أو النساء والعائلات، بمعنى عدم استقبال الشبان بمفردهم.

ويؤكد الباحث المجتمعي علاء سالم، لـ”العربي الجديد”، أن “ما يجري لا يقتصر على زيادة عدد المدخنات، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تعريف اجتماعي للسلوك”. قبل سنوات، كان تدخين المرأة ينظر إليه باعتباره سلوكاً غير مقبول، أما اليوم فأصبح أمراً اعتيادياً في بعض الأوساط، وهو يعني أننا أمام تحوّل ثقافي واجتماعي وليس مجرد ارتفاع في الأعداد”.

ويلفت إلى أن “وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً مهماً في تطبيع الظاهرة، سواء عبر عرض صور وفيديوهات لمدخنات، أو عبر محتوى دعم فكرة الحرية الشخصية في التدخين. وتعتبر بعض الفتيات التدخين جزءاً من الهوية الحديثة أو من مظاهر الثقة بالنفس، في حين تتأثر أخريات بمحيطهنّ أو صديقاتهنّ في الجامعة والعمل. وتحوّل الظاهرة إلى سلوك اعتيادي سيصعّب مواجهتها في المستقبل؛ لأن الخطر الأكبر ليس في ارتفاع نسبة المدخنات، بل في قبول المجتمع، خاصة الفتيات الصغيرات، التدخين باعتباره فعلاً طبيعياً غير مستغرب”.

تقول زهراء (28 سنة)، وهي موظفة في شركة خاصة ببغداد تدخن سجائر إلكترونية منذ عامين، لـ”العربي الجديد: “التدخين بالنسبة لي حرية شخصية لا علاقة للمجتمع بها. كنت أتردد في البداية بسبب النظرة الاجتماعية، لكنّني قرّرت بعدها أن الأمر يخصني وحدي لأنني لا أؤذي أحداً، وأستخدم السيجارة الإلكترونية لأنها أقل ضرراً من السجائر العادية”.

وتشير إلى أن الكثير من صديقاتها بدأن في التدخين أيضاً، سواء رغبةً تجربة شيء جديد أو اعتقاداً منهنّ بأن التدخين يساعد في تخفيف التوتر، وتقول: “العمل مرهق والحياة ضاغطة، والسيجارة الإلكترونية تمنحني نوعاً من الاسترخاء. لا أعتقد بأنه يحق لأي أحد أن يحاسبني”.

وبين انتشار الظاهرة من جهة، وتصاعد التحذيرات من جهة أخرى، يبقى مستقبل التدخين بين العراقيات مرتبطاً بمجموعة عوامل، منها قدرة وزارة الصحة على تنفيذ برامج توعية فعّالة، ومستوى استجابة المجتمع لهذه الحملات، إضافة إلى تأثير الإعلام ووسائل التواصل في تعزيز القيم الجديدة المتعلقة بحرية المرأة وسلوكها.

ورغم أن الظاهرة لا تزال، بحسب متخصّصين، أقل قياساً بالظواهر المترسخة في المجتمع، لكنّ اتساعها تدريجياً يفرض تحدياً جديداً على المؤسّسات الصحية والتربوية والاجتماعية، وسط مخاوف من أن جيل النساء المدخنات الجديد بات ظاهرة طبيعية داخل الحياة اليومية التي لم تعد تعترف بالقيود التقليدية.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − 12 =

زر الذهاب إلى الأعلى