تركيا ’تزاحم’ إيران في العراق.. دوافع الزحف العسكري الجديد

إن الاستحقاقات الجيوسياسية التي يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحقيقها في سوريا وليبيا، تأتي ذاتها في سياق العملية العسكرية الأخيرة شمال العراق.

جاءت العملية العسكرية التي تشنها تركيا في مناطق شمال العراق منذ 15 يونيو 2020، ضد قواعد حزب العمال الكردستاني التركي المتمركزة هناك، لتُسلِّط الضوء مجدداً على البيئة الأمنية المعقدة التي تعيشها الحدود العراقية التركية منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي؛ فهذه العملية العسكرية، المتعددة المراحل والمستويات، التي أطلقت عليها تركيا مُسمَّيات من قبيل “مخلب النسر” و”مخلب النمر”، لم تكن الأولى من نوعها في هذه الرقعة الجغرافية، بل سبقها العديد من العمليات العسكرية منذ بداية عام 1992، وكان الهدف الرئيس منها، القضاء على القوة العسكرية للحزب، الذي دخل في مواجهة مفتوحة مع الدولة التركية منذ ذلك التاريخ.

إلا إن ما يُميّز العملية العسكرية الأخيرة، أنها أشمل وأكثر قوة من العمليات العسكرية السابقة، خصوصاً أنها جاءت بعد عمليات استطلاع ومراقبة جوية تركية استمرت نحو عامين، تمكنت خلالها تركيا من رصد أغلب تحركات عناصر الحزب على طول الحدود العراقية التركية، فضلاً عن متابعة أغلب منظومات القيادة والسيطرة التابعة له، والمنتشرة في مناطق سنجار وجبال قنديل وصولاً للحدود السورية غرباً والحدود الإيرانية شرقاً. وعلى ما يبدو، فإن تركيا تسعى من خلال هذه العملية، جعل تلك المناطق جزءاً من المنطقة الآمنة في شمال شرق سوريا، عبر العديد من العمليات العسكرية التي قامت بها مؤخراً، والتي كان آخرها عملية “نَبْع السلام” في أكتوبر 2019.

طبيعة التدخل العسكري التركي في شمال العراق وأهدافه العملياتية

شَكَّل وجود حزب العمال الكردستاني داخل الحدود العراقية، أحد أبرز الملفات المعقدة في مسار العلاقات العراقية-التركية منذ منتصف القرن الماضي، وزاد من تعقيد هذه الحالة، عدم تمكُّن العراق من فرض سلطانه الداخلي على المناطق الشمالية من البلاد، بسبب قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بفرض حظر الطيران في تسعينيات القرن الماضي، إذ ساهمت القرارات الأممية في تحجيم السيادة العراقية على مدن دهوك وأربيل والسليمانية، وهي المدن الرئيسة الثلاث التي تشكل ما يعرف بإقليم كردستان العراق.

وعند مراجعة استراتيجية الأمن القومي التركي، نجد أنها تشير إلى العديد من الأحزمة الأمنية التي تمثل مجالات مؤثرة في الأمن القومي لتركيا، كما نجد أن تركيا تُولي اهتماماً كبيراً بالخط الجغرافي الذي يمتد من حلب السورية حتى الموصل العراقية، وتعتبر أن تجاوز هذا الخط من أية قوة محلية أو إقليمية يمثل تهديداً لأمنها القومي، ولذلك أصبح وجود عناصر الحزب على طول هذا الحزام الجغرافي، بمثابة فجوة أمنية عانت منها تركيا كثيراً.

وعليه، يمكن القول بأن الأهداف العملياتية للقوات التركية في مناطق شمال العراق تتمثل في الآتي:

  • القضاء على وجود عناصر الحزب على طول الحدود العراقية التركية.
  • تدمير منظومات القيادة والسيطرة التابعة للحزب في مناطق سنجار وجبال قنديل.
  • تدمير المعسكرات والمقرات التابعة للحزب في مناطق دهوك وزاخو وغيرها.
  • قطع الشريط الحدودي الذي يربط الحزب بالجماعات الكردية في سوريا.
  • محاولة خلق منطقة آمنة داخل الحدود العراقية بعمق 50 كيلو متراً، وبما يُمكِّن من ربط مدينة هفتانين الحدودية بمعسكر بعشيقة في سهل نينوى الذي توجد فيه القوات التركية.

الدوافع التركية

إن الإدراك التركي بأن الموقف الأمريكي في مرحلة ما بعد وباء كورونا، قد يكون معقداً جداً، وتحديداً في العراق الذي يخوض حواراً استراتيجياً مع واشنطن قد يمهد لانسحاب أمريكي من هذا البلد مستقبلاً، ومن ثمّ فإن الضرورة الاستراتيجية التركية ربما تستدعي إنشاء واقع إقليمي جديد شمال العراق، قبل أن تستثمر إيران الفرصة مرةً أخرى، على غرار ما حصل بعد الانسحاب العسكري الأمريكي عام 2011.

كما أن الديناميات المتغيرة في الساحة السورية، وتحديداً في المناطق الشمالية الشرقية، التي تسعى من خلالها تركيا للوصول إلى ما بعد حلب، مقابل سعي إيراني للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، بمثابة تقاطع استراتيجي بينهما، قد يجد صداه في الامتداد الجغرافي داخل الحدود العراقية، وتحديداً في مدن سنجار وربيعة وسهل نينوى، التي تشهد وجوداً عسكرياً للمليشيات المسلحة المقربة من إيران من جهة، وحزب العمال الكردستاني التركي من جهة ثانية، وهو واقع جغرافي تجد تركيا أن من الضروري تجاوزه بأسرع وقت ممكن.

علاوة على ذلك، هناك العديد من الدوافع التي أدت إلى بدء تركيا هذه العمليات العسكرية في هذا التوقيت، ومنها:

  • سعي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى أن تكون هذه العملية خدمةً لرصيده السياسي في الاستحقاقات السياسية الداخلية المقبلة.
  • التأثير على حظوظ الأحزاب السياسية الكردية في الجنوب التركي، كونها بيئة تنافسية انتخابية خدمت حزب العدالة والتنمية خلال الفترة الماضية.
  • سحب ورقة مهمة من يد المعارضة التركية، وتحديداً حزب الشعب الجمهوري المعارض، الذي يعتبر أن سياسات حزب العدالة والتنمية هي السبب الرئيس وراء حالة الاحتقان الأمني الذي تعيشه مناطق جنوب تركيا.
  • التأثير في الخيارات السياسية للأكراد السوريين، والذين يطمحون إلى تكرار تجربة إقليم كردستان العراق في سوريا ما بعد الصراع.

موقف الحكومة العراقية وحكومة أربيل من العملية

على الرغم من المواقف الدبلوماسية المستنكرة لهذه العملية، والتي عَبَّرت عنها وزارة الخارجية العراقية في أكثر من مناسبة، وبأكثر من طريقة، بما فيها استدعاء السفير التركي في بغداد فاتح يلدز للإعراب عن احتجاجها رسمياً، إلا إن الزيارة السرية التي قام بها رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان للعراق في مطلع مايو الماضي، تشير إلى أن هناك ترتيبات أمنية تم الاتفاق عليها مع رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، ما أتاح النظر إلى تلك الزيارة باعتبارها مؤشراً لتوجه جديد في مسار العلاقة بين بغداد وأنقرة.

واللافت هنا أن حكومة إقليم كردستان، وبعكس الموقف العلني المُعارض الذي أبدته بغداد، عَبرَّت عن عدم معارضتها للعمليات العسكرية التركية، وذلك على لسان رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني، الذي قال إن وجود حزب العمال الكردستاني التركي وحزب الحياة الحرة الكردي الإيراني، يشكل حالة عدم استقرار أمني في المثلث العراقي-التركي-الإيراني.

الأبعاد الإقليمية للعملية العسكرية التركية

يشير التوسُّع الكبير في العمليات العسكرية الراهنة ضد قواعد ونقاط تمركز حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق، إلى أن تركيا تطمح إلى خلق بيئة أمنية جديدة بعيدة عن تأثيرات اللاعبين الآخرين فيها، والحديث هنا عن لاعبين محليين وإقليميين، شكلوا مُقيِّدات حقيقية في وجه طموح تركيا إلى تأسيس نظام إقليمي جديد تشكل القاعدة الرئيسة له، ما يجعل مدة استمرار هذه العمليات مرتبطة بطبيعة الأهداف التي ستحققها.

وتشير التطورات الأخيرة، إلى أن العملية العسكرية التركية في الشمال العراقي دخلت مرحلتها الثانية، بعد تمكُّن العديد من القوات التركية من التمركز في عدة نقاط عسكرية داخل الحدود العراقية، والتي كان آخرها سيطرتها على قمة جبل خامتير في محافظة دهوك الأسبوع الماضي، فضلاً عن تمركز القوات التركية في العديد من المواقع العسكرية التي كان يستخدمها الحزب في فترات سابقة. وعلى الرغم من الأهداف التي أعلنت عنها تركيا قُبيل بدء العملية العسكرية الأخيرة، إلا أن الثابت أن أنقرة تنظر إلى الأهداف المتحققة من هذه العملية، باعتبارها جزءاً من استراتيجية بعيدة المدى، ذات جوانب سياسية واقتصادية وأمنية.

ويمكن التأكيد هنا، مُجدداً، أن الهدف الاستراتيجي الذي تطمح تركيا لتحقيقه في الوقت الحاضر، هو خلق منطقة آمنة بعمق 50 كيلو متراً داخل الأراضي العراقية، تبدأ من منطقة هافتانين الحدودية وحتى معسكر بعشيقة في سهل نينوى، الذي توجد فيه القوات التركية، وهو ما يجعلها مُتحكِّمة بالعديد من الممرات الاستراتيجية التي تربط هذه المنطقة الآمنة بمدن سنجار وقنديل والزاب وأفشين وباسيان، فضلاً عن ربط هذه المنطقة الآمنة بمنطقة هاكروك على الحدود الإيرانية في جنوب شرق تركيا، والهدف من ذلك كله السيطرة على الشريط الحدودي الشمالي الرابط بين العراق وسوريا.

خلاصة

إن الاستحقاقات الجيوسياسية التي يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحقيقها في سوريا وليبيا، تأتي ذاتها في سياق العملية العسكرية الأخيرة شمال العراق، وهو توجُّه يجد صداه في حالة الفراغ الجيواستراتيجي الذي تعاني منه دول المنطقة، ما دفع العديد من القوى الإقليمية لإعادة هيكلة التوازنات الاستراتيجية في الإطار الذي يَخدُم طموحاتها السياسية، والحالة التركية ليست استثناء من ذلك، إذ تنظر تركيا إلى الشريط الحدودي الرابط بينها وبين إيران والعراق وسوريا، أي مناطق تمركز الأكراد وانتشارهم، باعتباره أحد أبرز مُهدِّدات الأمن القومي التركي، ومن ثمّ فهي ترى أنه لابد من خلق حالة جغرافية جديدة تخدم الدور الإقليمي التركي، بعيداً عن التركيز على ملفات أمنية داخلية تُعرقِل هذا الدور، وهو ما يجري تأكيده في العملية العسكرية التركية الأخيرة ضد حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
مركز إمارات للسياسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى