كيف تسعى فرنسا إلى تطويق تركيا وتحجيم نفوذها بالمنطقة؟

أعاد انفجار مرفأ بيروت إلى الواجهة عمق أزمة لبنان السياسية والاقتصادية.

ميدل ايست نيوز: تعتبر سنة 2020، سنة ذروة التوتر بين تركيا وفرنسا بامتياز، فبعد الصراع المفتوح بين أنقرة وباريس بسوريا وليبيا، رفع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من وتيرة تحركه الدبلوماسي والعسكري، هذه المرة، بشرقي البحر المتوسط والشرق الأوسط مؤخراً. إذ تتوالى الزيارات الفرنسية للبنان والعراق، ودعم اليونان عسكرياً في مواجهتها مع تركيا بشأن حقوق استغلال مكامن النفط والغاز المحتملة، وهي مؤشرات تدل على محاولة ماكرون الحدَّ من تزايد النفوذ التركي بالمنطقة، بل تطويقه.

لبنان: الحنين إلى إحياء الإرث الاستعماري

أعاد انفجار مرفأ بيروت إلى الواجهة عمق أزمة لبنان السياسية والاقتصادية. وزيارة الرئيس الفرنسي الأولى، في 6 أغسطس/آب 2020، مباشرة، بعد يومين على الانفجار، سلطت الضوء على طموح الدبلوماسية الفرنسية لاستعادة دورها التاريخي بالمنطقة عبر الضغط على كافة الأطراف السياسية من أجل تشكيل الحكومة والالتزام بإصلاحات اقتصادية واسعة وسريعة للحد من الفساد.

وقد تمخض عن هذا التحرك المتسارع، شوط جديد من الصراع الفرنسي التركي الإقليمي. ولا أدل على ذلك من زيارة وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، ونائب الرئيس التركي، فؤاد أقطاي، للبنان بعد ذلك بيومين، في 8 أغسطس/آب؛ وذلك تعبيراً عن استعداد أنقرة لدعم لبنان إنسانياً واقتصادياً، وذلك عبر وضع ميناء مرسين رهن تصرُّف الحكومة اللبنانية، في انتظار إعادة بناء ميناء بيروت.

وأما الزيارة الثانية التي قام بها الرئيس الفرنسي للبنان في فاتح شهر سبتمبر/أيلول، فقد صادفت الذكرى المئوية لانفصال لبنان عن الدولة العثمانية سنة 1920، ودخوله تحت الانتداب الفرنسي كبلد جديد تحت اسم لبنان الكبير.

ولم يتأخر رد الفعل التركي، إذ اعتبرت الخارجية التركية أن التحركات الفرنسية “محاولة لإحياء الإرث الاستعماري بالمنطقة، وتدخُّل سافر في الشأن اللبناني الداخلي”. ولم يتوقف التجاذب الفرنسي التركي عند المبادرات التضامنية التي أعقبت انفجار بيروت، بل امتد إلى اقتراح فرنسا عقد مؤتمر دعم دولي بتنسيق مع الأمم المتحدة، في شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل.

وفي سياق متصل، أعلنت الرئاسة الفرنسية برمجة ماكرون لزيارة ثالثة في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وزيارة رابعة في شهر ديسمبر/كانون الأول لبيروت. ويتوقف عقد مؤتمر الدعم الدولي للبنان في باريس على تسريع وتيرة تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات الضرورية لانتشال لبنان من الانهيار الاقتصادي المتسارع.

ويبدو أن النشاط الدبلوماسي الفرنسي المكثف بالمنطقة يراهن على الدور التاريخي لباريس كـ”حامية وراعية لمسيحيي الشرق” منذ حكم فرانسوا الأول، إضافة إلى أهمية حجم الجالية اللبنانية المقيمة بفرنسا، خاصةً المسيحية منها، والتي يتراوح عددها ما بين 120 ألفاً و200 ألف شخص.

وقد اعتبرت أنقرة تصرُّف ماكرون وزياراته المتتالية للبنان تصرفَ من يدير ولاية من الولايات الفرنسية، خاصة أنه هدد الشعب اللبناني وحذَّر من الوجود التركي المتزايد في البلاد، والحال أن تركيا ما فتئت تؤكد وقوفها إلى جانب لبنان من منطق المصلحة المتبادلة (أكسب-تكسب). الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان أكثر وضوحاً في مهاجمة الحراك الدبلوماسي لباريس، إذ أكد في 13أغسطس/آب الماضي، أن وقوف تركيا إلى جانب لبنان واجب عليها، ويأتي من باب الأخوة الأبدية مع الشعب اللبناني، وليس كما يفعله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي “همُّه إعادة الاستعمار”.

العراق: فرنسا تبحث عن ملء الفراغات أمام تركيا

بعد زيارة الرئيس الفرنسي، ماكرون، الثانية للبنان، أعقبها بزيارة سريعة غير معلنة لبغداد، استغرقت بضع ساعات. ويأتي هذا التحرك الفرنسي ضمن ما تعتبره دبلوماسية باريس “دعماً لسيادة العراق وعدم التدخل في شؤونه، خاصةً أن البلاد تمر بظرف اقتصادي وأمني دقيق من جراء الحرب على داعش وجائحة كورونا.

إن الحديث عن سيادة العراق يأتي امتداداً للموقف الفرنسي الرافض لتحركات تركيا بالمنطقة، خاصة بعد الهجوم الذي شنته طائرات مُسيَّرة تركية ضد حزب العمال الكردستاني في كردستان العراق، وهو الهجوم الذي أدى إلى مقتل ضابطين عراقيين من حرس الحدود في شمالي العراق. وحذَّر ماكرون خلال زيارته للعراق، من “خطورة التدخل التركي الإيراني وأثره في التدهور الذي آلت إليه البلاد في الآونة الأخيرة”.

ولم يتأخر رد أنقرة، إذ استقبلت رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، نيجيرفان بارزاني، الجمعة 4 سبتمبر/أيلول 2020؛ رداً على زيارة ماكرون للعراق. وهو اللقاء الذي كان فرصة للوقوف على ملفات التعاون بين الطرفين، خاصة في مجال محاربة عناصر حزب العمال الكردستاني.

إن التحرك الفرنسي ضد تركيا بالعراق يأتي رداً على تزايد النفوذ التركي على المستويين العسكري والاقتصادي. فقد كثفت تركيا، عسكرياً، من عمليات ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني بالأراضي العراقية، وتحاول فرنسا سد أي فراغ تركه الأمريكيون في البلاد.

وعلى المستوى الاقتصادي، أصبحت الشركات التركية أكثر حضوراً بالسوق العراقية، خاصة لتلبية حاجات البلاد من الكهرباء والسلع الاستهلاكية.

وزيارة ماكرون لا تقتصر على البعد السياسي فحسبُ، بل تحمل بين طياتها أهدافاً اقتصادية. فقد أعلنت فرنسا تقديمَ مقترح تعاون في مجال الطاقة عبر العمل على مشروع نووي يمكّن من التغلب على النقص المزمن في الكهرباء، وكذلك مشروع مترو بغداد، إضافة إلى تشجيع المستثمرين الدوليين والمانحين على التوجه إلى بلاد الرافدين للاستثمار فيها.

تركيا: سيناريوهات مواجهة التحركات الفرنسية

إن مختلف المبادرات الفرنسية، حسبما يرى العديد من المحللين، سواء بلبنان أو العراق أو شرقي المتوسط أو ليبيا أو دول إفريقيا، تستهين بتزايد ثقل وزن تركيا عسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً.

فقد تغيرت التوازنات الجيوستراتيجية بالمنطقة مع ارتفاع قدرة تركيا على التفاوض وفرض وجهة نظرها في مختلف الملفات موضوع الخلاف مع فرنسا.

فتركيا تملك حالياً ثاني جيش بحلف الناتو بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى احتضانها قاعدة إنجرليك العسكرية التي تعد مركزاً محورياً لانطلاق عمليات الحلف العسكرية بالشرق الأوسط.

يفسر بعض المتتبعين المحاولة الفرنسية الرامية إلى تقويض النفوذ التركي، برغبة فرنسا في إعادة إحياء قطاع صناعتها الدفاعية عن طريق المساهمة في تأجيج الصراع بين دول المنطقة. والدليل على ذلك تزايد حجم عقود مبيعات الأسلحة الفرنسية مع اليونان ومصر والإمارات، خاصةً مبيعات طائرات “رافال”.

وأما في تركيا، فقد أصبح قطاع التسلح إحدى ركائز قوتها التصديرية بالنظر إلى ارتفاع عدد الشركات الدفاعية المُصدرة، حيث دخلت سبع شركات تركية، سنة 2020، الترتيب الدولي الذي يصنف أهم مئة شركة بالعالم عاملة في صناعة الأسلحة. وبالموازاة مع ذلك، اتسع هامش حرية التزود بالأسلحة من غير عند الشركاء التقليديين كأمريكا وأوروبا، إذ قررت أنقرة شراء أنظمة صواريخ “إس 400” المتقدمة من روسيا. وما انفك هامش هذه الحرية يكبر مع تردد الحلفاء في تزويدها باحتياجاتها الدفاعية، خاصةً الدفاعات الجوية.

ويواكب تزايد القوة العسكرية التركية نضج الشركات الخاصة المُصدرة التي أصبحت تفوز بمزيد من طلبات العروض والصفقات المرتبطة بالبنيات التحتية والخدمات وذلك رغم شدة منافسة الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا ذات التاريخ الاستعماري بإفريقيا. ولعل من علامات بزوغ الشركات التركية اتساع العجز التجاري لفرنسا بالمقارنة مع تركيا والذي بلغ 3 مليارات يورو سنة 2019، بسبب تزايد الإقبال الفرنسي على الصادرات التركية، خاصةً منها السيارات والآلات المنزلية والكهربائية وإكسسوارات السيارات.

وفضلاً عن القوة الاقتصادية والعسكرية، توظف تركيا ملف اللاجئين للضغط على أوروبا في المفاوضات بشأن مختلف الملفات مواضيع النزاع باعتبارها درعاً لدرء تدفق المهاجرين السريين، خاصةً الهاربين من أوزار الحرب بسوريا على الخصوص.

في الختام، فتداعيات الملفين اللبناني والعراقي على الصراع المحتدم بين باريس وأنقرة ليست إلا جزءاً من الملفات المغذية للعداء التاريخي بين البلدين. فملف العراق ولبنان ينضاف إلى لائحة ملفات خلافية، تضم دعم أنقرة لحكومة الوفاق الليبية ضد الجنرال حفتر. والموقف الأوروبي والفرنسي الرافض لتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، وكذلك الدعم الفرنسي لتنظيمات PKK وYPG بسوريا التي تصنفها تركيا إرهابية. إضافة إلى دعم باريس لليونان وقبرص الجنوبية في قضية استغلال الغاز والنفط بشرقي المتوسط، والمنافسة الاقتصادية والعسكرية الحادة بين أنقرة وباريس على إفريقيا، الفضاء الحيوي التاريخي لفرنسا.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
عربي بست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى