في تحرك مفاجئ روسيا تضع قدمها في “الكريدور الإيراني” بسوريا
وصول الروس إلى الحدود مع العراق يعتبر الأول من نوعه منذ سنوات، وهو تطور له عدة أبعاد عسكرية، ترتبط بالرمزية التي تشكّلها البوكمال بالنسبة للإيرانيين.
ميدل ايست نيوز: في تحرك مفاجئ تضع القوات الروسية قدما لها وسط “الكريدور الإيراني” (الطريق البري) الذي يصل طهران بالبحر المتوسط، بموجب اتفاق غير معلن أبرمته في اليومين الماضيين مع القوات التابعة لإيران المنتشرة في مدينة البوكمال السورية، وقضى بإنشاء نقاط عسكرية لها على الحدود السورية- العراقية.
وصول الروس إلى الحدود مع العراق يعتبر الأول من نوعه منذ سنوات، وهو تطور له عدة أبعاد عسكرية، ترتبط بالرمزية التي تشكّلها البوكمال بالنسبة للإيرانيين، فهي المعقل الأبرز لهم في شرق سوريا، والمحطة التي تتوسط طريقهم البري، الذي يعتبر أبرز مشاريع طهران لربطها بدمشق وسواحل المتوسط عبر العراق برا.
وتنتشر قوات إيرانية وأخرى عراقية ومجموعات داعمة لنظام الأسد في منطقة واسعة في ريف دير الزور الشرقي، خصوصا بين مدينتي البوكمال الحدودية والميادين، ومنذ العام الماضي رصدت صورا التقطتها أقمار اصطناعية قيام إيران ببناء قاعدة الإمام علي، التي تضم مستودعات كبرى، ونفقا سريا.
انتشار ومقرات
رغم أن الاتفاق لم يعلن بشكل رسمي من جانب الروس أو الإيرانيين، إلا أن مصادر مطلعة أكدت في تصريحات لموقع “الحرة” أن بنوده باتت أمرا واقعا على الأرض، حيث انتشرت قوات تتبع لـ”الفيلق الخامس” الذي تدعمه روسيا أمس في قرية الهري الواقعة على الحدود السورية- العراقية بعمق خمس كيلومترات.
المصادر التي طلبت عدم ذكر اسمها، أوضحت أن الاتفاق يقضي بسحب قوات “حركة النجباء” و”حزب الله” اللبناني و”حزب الله العراقي” من قرية الهري، على أن تحل مكانها قوات “الفيلق الخامس”، بالإضافة إلى عناصر من الشرطة الروسية، من أجل تنفيذ دوريات بين الفترة والأخرى.
وبموجب الاتفاق ستسلّم القوات التابعة لإيران التي تسيطر على البوكمال مقار عسكرية للقوات الروسية داخل المدينة، وهو التمركز الأول لها منذ السيطرة على المنطقة من قبل الإيرانيين، في عام 2017 بعد المعارك التي خاضوها ضد تنظيم “داعش”.
وتشير المصادر إلى أن قوات “الفيلق الخامس” وفي أثناء انتشارها في قرية الهري كانت تستقل عربات روسية وترفع أعلام موسكو، وأعدادها لم تكن كبيرة بل تقدّر بالعشرات، على أن يتركز انتشارها في الأيام المقبلة في ثلاث نقاط داخل قرية الهري وفي محيطها.
ومنذ عام 2017 وحتى الآن لم تسلم القوات التابعة لإيران المتمركزة ما بين البوكمال ومدينة الميادين من القصف الإسرائيلي، إلى جانب ضربات جوية نفذها التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، في استهدافات أسفرت عن مقتل العشرات من عناصر “الحرس الثوري” الإيراني، حسب ما وثقت شبكات محلية و”المرصد السوري لحقوق الإنسان”، في عدة مرات.
تحركات استباقية
تَحرك الروس على أكثر من محور في ريف دير الزور شرق سوريا قبل التوصل إلى الاتفاق المذكور، فقد شهدت البوكمال وفي الأيام الثلاثة الماضية عدة اجتماعات بين ضباط روس وقادة القوات التابعة لإيران، من أجل تنسيق الانتشار الجديد في المنطقة لكلا الطرفين.
وبموازاة اجتماعاهم مع قادة القوات التابعة لإيران التقى الضباط الروس مع وجهاء وشيوخ عشائر مدينة الميادين والقرى التي تصلها مع البوكمال، ووفق ما تقول المصادر التي تحدث إليها موقع “الحرة” فإن الروس أعطوا “تطمينات” للوجهاء بإعادة الاستقرار إلى المنطقة في الأيام المقبلة، والسعي لتخفيف الضربات الجوية عليها.
وتضيف المصادر أن الروس وفي أثناء اجتماعهم تحدثوا عن نيتهم ضبط المنطقة بشكل كامل، سواء من حيث القصف أو الهجمات التي يشنها تنظيم “داعش” بين الفترة والأخرى، دون تقديم أي توضيحات عن العلاقة التي سيكونون عليها مع الإيرانيين المنتشرين في المنطقة بشكل كبير.
وكان الاجتماع المذكور قد تحدثت عنه وكالة أنباء نظام الأسد (سانا) في تقرير نشرته، في السادس عشر من الشهر الحالي، مشيرة إلى أنه ركز على “مطالبة الأميركيين والأتراك بمغادرة الأراضي السورية، لإعادتها لسلطة الدولة السورية”.
على أكثر من جبهة
طوال السنوات الماضية من الحرب في سوريا تقاطعت مصالح روسيا وإيران في أكثر من جبهة، فالداعم على الأرض مشترك هو النظام السوري ورئيسه، بشار الأسد، والعدو هي الفصائل العسكرية المعارضة، ومؤخرا تنظيم “داعش”.
لكن المشهد بعد تسع سنوات يبدو أنه اختلف، ولم يعد كما في السابق، كون الروس يقفون أمام معادلة صعبة، على خلفية تقاربهم الكبير مع إسرائيل من جهة، وفي ذات الوقت علاقتهم المستمرة مع طهران، التي تشاركهم نظام الأسد.
وعلى اعتبار أن اتفاق البوكمال تطورا لافتا، ويأتي في التوقيت الذي يستبق وصول الإدارة الأميركية الجديدة، إلا أنه وبحسب الواقع العام للمشهد السوري يعتبر خطوة أولى ضمن تحركات أوسع يعمل عليها الروس، منذ قرابة أسبوعين، من شرق سوريا إلى جنوبها وغربها وشمالها.
وصول القوات الروسية إلى الحدود السورية- والعراقية كان قد استبقته تحركات روسية في إطار الدوريات على خط “برافو” الفاصل بين قوات الأسد والقوات الإسرائيلية في الجولان، إلى جانب زيارات لضباط روس في محافظة السويداء، من أجل التوصل لاتفاق “تسوية”، لم تتضح تفاصيلها حتى الآن.
وفي الشمال السوري تحرك الروس على مدار الأسبوعيين الماضيين في المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية في ريف الرقة، في محاولة منهم لدخول مدينة عين عيسى، التي تهددها فصائل “الجيش الوطني” وتركيا.
ماذا يريد الروس؟
المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي، رائد جبر، يقول إن موسكو تستعجل وضع ترتيبات ميدانية على الخريطة السورية، من أجل تشكيل أمر واقع أمام الإدارة الأميركية الجديدة، تحسبا لخطواتها غير المحسوبة، وعما ستفعله في سوريا.
ويضيف جبر في تصريحات لموقع “الحرة” أن التحركات الروسية تتم في شرق سوريا مع الإيرانيين، والجنوب الغربي مع إسرائيل، وفي الشمال مع الجانب التركي من طرف ومع المكون الكردي من طرف آخر، معتبرا “روسيا تستعجل ترتيبات ميدانية كاملة وعلى أكثر من جبهة”.
وفيما يتعلق بإيران يرى المحلل السياسي المقيم في موسكو أن ما عملت عليه روسيا بوصولها إلى الحدود السورية- العراقية يأتي في سياق رسائلها لأميركا ولأطراف أخرى بأنها قادرة على ضبط الوجود الإيراني، خاصة في مناطق التماس والمناطق الحساسة في الشرق والجنوب الغربي مع الجولان.
كما يصب انتشار الروس في البوكمال وعلى الحدود مع العراق، حسب جبر في إطار الخطوات الاستباقية مع الجانب الأميركي، في حال تم فتح الحوار حول الوجود الإيراني في سوريا، في المرحلة المقبلة.
ضبط أكثر
وتنتشر العديد من المليشيات المدعومة من إيران والموالية للنظام السوري في شرق سوريا، وخاصة في مدينة البوكمال التي لم يعود سكانها إليها إلا بنسبة بسيطة، بعد العمليات العسكرية الأخيرة ضد تنظيم “داعش”، في 2017.
ومن أبرز الميليشيات الإيرانية: “فاطميون” و”زينبيون”، والتي تنتشر بشكل كبير في محيط مدينتي الميادين والبوكمال، إلى جانب ميليشيات تتبع لـ”حزب الله” العراقي و”حركة النجباء”، التي تنتشر في عدة قواعد ومواقع على الضفاف الغربية لنهر الفرات.
واللافت في التحرك الروسي في شرق سوريا بأنه يتم عبر ميليشيات تدعمها أيضا، كـ “الفيلق الخامس” و”لواء القدس” الذي يخوض حاليا عمليات عسكرية في بادية دير الزور وبادية ريف حمص ضد الخلايا المتبقية من تنظيم “داعش”.
ويربط الباحث في مركز “جسور للدراسات”، وائل علوان وصول الروس إلى الحدود السورية- العراقية بالسردية الكاملة للتحركات الروسية في عموم الجنوب السوري، من أجل “إعادة ضبط الوجود الإيراني”.
ويقول في تصريحات لموقع “الحرة”: “لدي قناعة أن روسيا لا تعمل على إخراج إيران من سوريا أو الحد من نفوذها بمقدار ما تضبط وجودها المستفز لإسرائيل”، مضيفا: “في شرق سوريا هناك وجود إيراني مستهدف من قبل إسرائيل، ويحتاج لشيء من الضبط”.
ولا تنحصر أهداف الروس في عملية ضبط الوجود الإيراني بالإسرائيليين فقط، بل تذهب أنظارهم إلى خلايا تنظيم “داعش”، ويوضح الباحث السوري: “تريد روسيا أن تضبط موضوع شمال البوكمال ومنطقة غرب دير الزور، من أجل قطع تواصل داعش بشكل كامل أيضا”.