إيران.. أزمة طاقة وسط ظروف جيوسياسية بالغة التعقيد
على الرغم من أن إيران تمتلك أحد أكبر احتياطيات النفط والغاز الطبيعي في العالم وتعد من الدول الرئيسية المصدرة، إلا أنها تواجه أزمة كهرباء غير مسبوقة في وقت بالغ الحساسية.
ميدل ايست نيوز: على الرغم من أن إيران تمتلك أحد أكبر احتياطيات النفط والغاز الطبيعي في العالم وتعد من الدول الرئيسية المصدرة، إلا أنها تواجه أزمة كهرباء غير مسبوقة في وقت بالغ الحساسية، ما يدفع الحكومة إلى الاستنفار عبر جعل أولوية إمدادات الغاز والكهرباء للمنازل خلال هذا الشتاء لتفادي أي غضب شعبي، بينما اضطر الكثير من المصانع إلى الإغلاق، وتعطل العديد من الخدمات.
أغلقت المكاتب الحكومية أو تعمل لساعات مخفضة، كما انتقلت المدارس والجامعات إلى العمل عبر الإنترنت للمرة الأولى منذ جائحة فيروس كورونا التي ضربت العالم قبل نحو أربع سنوات، وانحدرت الطرق السريعة ومراكز التسوق إلى الظلام.
وتعاني إيران من أزمة طاقة كاملة، يمكن أن تُعزى إلى سنوات من العقوبات وسوء الإدارة والبنية الأساسية المتقادمة والاستهلاك المسرف، والهجمات من قبل إسرائيل.
وقال الرئيس مسعود بزشكيان في خطاب تلفزيوني مباشر إلى الأمة هذا الشهر: “نحن نواجه اختلالات خطيرة للغاية في الغاز والكهرباء والوقود والمياه والمال والبيئة… كل هذه الأمور على مستوى يمكن أن تتحول إلى أزمة”. وفي حين تكافح إيران منذ سنوات مع مشاكل في بنيتها الأساسية، حذر الرئيس من أن المشكلة وصلت إلى نقطة حرجة.
خلال معظم الأسبوع الماضي، كانت البلاد مغلقة فعلياً لتوفير الطاقة. وبينما كان المواطنون غاضبين وقادة الصناعة قلقين من حجم الخسائر المصاحبة التي تقدر بعشرات مليارات الدولارات، لم يستطع بزشكيان تقديم حلّ آخر غير التعبير عن أسفه قائلا: “يجب أن نعتذر للشعب لأننا في موقف يتعين عليه تحمل العبء الأكبر… إن شاء الله، سنحاول العام المقبل ألا يحدث هذا”.
إيران.. انخفاض الإنتاج الزراعي في الخريف بنسبة 30% بسبب انقطاع الكهرباء
لكن انقطاعات التيار الكهربائي قد تستمر على نطاق واسع أياماً أو أسابيع. وقال المسؤولون إن العجز في كمية الغاز التي تحتاجها البلاد يبلغ حوالي 350 مليون متر مكعب يومياً، ومع انخفاض درجات الحرارة وارتفاع الطلب، اضطر المسؤولون إلى اللجوء إلى تدابير متطرفة لتقنين استهلاك الغاز. فقد واجهت الحكومة خيارين قاسيين، إذ اضطرت إما إلى قطع الغاز عن المنازل السكنية أو إغلاق الإمداد لمحطات الطاقة التي تولد الكهرباء.
وقد اختارت الحل الثاني، لأن قطع الغاز عن الوحدات السكنية من شأنه أن تترتب عنه مخاطر أمنية خطيرة وسوف يقطع المصدر الأساسي للحرارة بالنسبة لمعظم الإيرانيين.
وقال حامد حسيني، عضو لجنة الطاقة في غرفة التجارة الإيرانية، في تصريحات عبر الهاتف، وفق تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، إن “سياسة الحكومة هي منع قطع الغاز والتدفئة عن المنازل بأي ثمن.. إنهم يكافحون لإدارة الأزمة واحتواء الأضرار لأن هذا يشبه برميل البارود الذي يمكن أن ينفجر ويخلق اضطرابات في جميع أنحاء البلاد”.
وبحلول يوم الجمعة الماضي، أُوقف تشغيل 17 محطة كهرباء بالكامل ولم تعد بقية المحطات تعمل إلا جزئياً. وحذرت شركة الطاقة الحكومية المنتجين في مختلف القطاعات، من الصلب إلى الزجاج إلى المنتجات الغذائية إلى الأدوية، للاستعداد لانقطاعات التيار الكهربائي على نطاق واسع، والتي قد تستمر أياماً أو أسابيع.
وقال مهدي بستانجي، رئيس مجلس تنسيق الصناعات في البلاد الذي يعمل حلقةَ وصل بين الصناعات والحكومة، في مقابلة من طهران، إن الوضع كارثي ولا يشبه أي شيء شهدته الصناعات على الإطلاق.
وأضاف أن قطع الكهرباء يمكن أن يقلل من التصنيع في إيران بنسبة تتراوح 30% و50% على الأقل. وقدر الخسائر منذ الأسبوع الماضي فقط بعشرات مليارات الدولارات. وقال إنه على الرغم من أن أي مؤسسة لم تنج من أضرار قطع الكهرباء، إلا أن المصانع الصغيرة والمتوسطة تعد الأكثر تضرراً.
أزمة في وقت جيوسياسي بالغ الصعوبة
تأتي أزمة الطاقة في وقت بالغ الصعوبة جيوسياسياً، فقد تقلصت مكانة إيران الإقليمية قوةً فاعلةً بشكل كبير في أعقاب سقوط النظام السوري وهروب بشار الأسد، والحرب التي شنتها إسرائيل على حزب الله اللبناني والتي تشير التقارير إلى أنها أضعفته كثيراً، حيث جرى اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله ونائبه هاشم صفي الدين بالإضافة إلى قيادات بارزة في الحزب.
كما من المتوقع أن تؤدي عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني المقبل إلى فرض أقصى قدر من الضغوط على النظام الإيراني، إذ يتوقع اتخاذ إجراءات من شأنها أن تزيد الضغط كثيراً على الاقتصاد ومنابع إيراداته المتمثلة في تصدير النفط والغاز. وفي الأثناء، شهدت عملة البلاد، الريال، هبوطاً حراً الأسبوع الماضي، حيث هبطت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق مقابل الدولار، وكل هذا جعل الحكومة عُرضة للخطر وهي تكافح لاحتواء كل أزمة.
إيران.. انقطاع الكهرباء يتسبب في تراجع إنتاج الصلب بمقدار مليون طن
إسرائيل تفجر خطي أنابيب غاز
وهناك عامل أقل شهرة أدى إلى تفاقم أزمة الطاقة هذا العام، ففي فبراير/شباط الماضي، فجرت إسرائيل خطي أنابيب للغاز في إيران كجزء من حربها السرية مع البلاد، وفق تقرير نيويورك تايمز. ونتيجة لهذا، استغلت الحكومة بهدوء احتياطيات الغاز الطارئة لتجنب انقطاع الخدمة عن ملايين الأشخاص، وفقاً لمسؤول من وزارة النفط وحامد حسيني، عضو لجنة الطاقة في غرفة التجارة.
وفي هذا الشأن، قال بزشكيان، الذي انتخب رئيساً في يوليو/تموز الماضي، إن حكومته ورثت مخزوناً من الطاقة المستنفد ولم تتمكن من تجديده. ويمثل الغاز الطبيعي حوالي 70% من مصادر الطاقة في إيران، وهو معدل أعلى بكثير من المعدلات في الولايات المتحدة وأوروبا، وفقاً لدراسات وكالة الطاقة الدولية. ونفذت الحكومة مشروعاً طموحاً لنقل الغاز إلى جميع أنحاء إيران، بما في ذلك القرى الصغيرة، والآن يعتمد حوالي 90% من المنازل الإيرانية على الغاز للتدفئة والطهي.
وعزا المحللون الأزمة الحالية إلى مجموعة من المشاكل، بما في ذلك البنية التحتية المتهالكة في جميع أنحاء سلسلة الإنتاج والتوريد. وقال المحللون إنه بسبب العقوبات، وجدت إيران صعوبة في جذب الاستثمارات الأجنبية لتوسيع وتحديث قطاع الطاقة لديها. ومن بين العوامل الأخرى، سوء الإدارة والفساد والأسعار الرخيصة التي تغذي الاستهلاك المسرف.
ويتضح أحد الأمثلة على الأزمات التي تواجه القطاع في عدم تمكن إيران من بناء محطات ضغط الغاز، التي من دونها ستنخفض مستويات الإنتاج في الحقول، مثل حقل بارس الجنوبي، بدرجة كبيرة. وتشير وسائل الإعلام الحكومية في إيران إلى أن حقل بارس الجنوبي العملاق يحتاج وحده إلى 20 محطة ضغط، يتطلب إنشاؤها استثمارات تبلغ 20 مليار دولار، بينما لا تملك الدولة التقنية ولا الخبرة لتصنيعها، ولا يمكنها استيراد المكونات اللازمة بسبب العقوبات.
وقال إسفنديار باتمانجليج، الرئيس التنفيذي لمؤسسة “البورصة والبازار” البحثية التي تتابع الشأن الاقتصادي الإيراني ومقرها لندن: “في جميع أنحاء السلسلة، ترى تحديات أساسية، حيث لا تتمكن إيران من إنتاج ما تحتاجه من التيار الكهربائي، وفي الوقت نفسه، لا تتمكن من تقليل استهلاكها”، مضيفاً: “من الصعب للغاية الاستمرار في هذا”.
وفي بداية أزمة الطاقة، لجأت إيران إلى فرض انقطاعات يومية مجدولة للتيار الكهربائي عن المنازل السكنية مدة ساعتين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكن هذا لم يكن كافياً. وباتت الانقطاعات تحدث بشكل عشوائي أكثر وتستمر فترة أطول حالياً. ولمدة يومين في الأسبوع الماضي، جرى إغلاق المدارس والجامعات والبنوك والمكاتب الحكومية بإشعار مسبق في كل المحافظات الإيرانية، باستثناء ثلاث محافظات، لتوفير الطاقة.
ويوم الخميس الماضي، قالت الحكومة إن جميع المدارس والتعليم العالي ستنتقل إلى العمل عبر الإنترنت لبقية الفصل الدراسي، الذي يستمر ثلاثة أسابيع أخرى تقريباً، وهو إجراء لم يُتخذ منذ وباء كورونا. لكن محافظ طهران محمد صادق معتمديان خرج ليعلن، يوم الجمعة الماضي، أن المدارس هناك ستكون مفتوحة يوم السبت بسبب الامتحانات النهائية. وستعمل المكاتب الحكومية بساعات مخفضة، وتنتهي في الساعة الثانية مساءً حتى إشعار آخر للحد من استهلاك الطاقة.
التوقف عن العمل في منتصف الطريق
ويبستيقظ الإيرانيون كل يوم وهم لا يعرفون ما إذا كانوا سيتمكنون من الذهاب إلى العمل أو إرسال أطفالهم إلى المدرسة، أو ما إذا كانت المصاعد أو إشارات المرور ستعمل. لقد أثر انقطاع التيار الكهربائي بشدة على الحياة اليومية والعمل.
وقالت سيفيده، وهي معلمة تبلغ من العمر 32 عاماً، في طهران، إن دروسها عبر الإنترنت للغة الإنكليزية تُلغى بشكل روتيني بسبب انقطاع الإنترنت. وأضاف: “عندما ينقطع التيار الكهربائي، ينقطع الماء أيضاً وتُغلق الغلايات، ونتيجة لذلك، تصبح جميع أجهزة التدفئة معطلة”. طلبت سيفيده نشر اسمها الأول فقط خوفاً من ملاحقات السلطات. كما قال نادر، وهو طبيب أسنان طلب أيضاً عدم الكشف عن هويته إلا باسمه الأول، إنه اضطر أحياناً إلى التوقف عن العمل في أفواه المرضى في منتصف الطريق بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
كذلك، قال مالك أحد أكبر مصانع تصنيع مواد البناء في مقابلة من طهران، وفق الصحيفة الأميركية، إن شركته نجت من الثورة والحرب والعقوبات، ولكن لم يكن أي من هذه الأشياء فوضوياً ومجهداً مثل أحداث الأسبوع الماضي. وقال إن شعوراً ساحقاً بعدم اليقين ينتشر بين القطاع الخاص، حيث تنزلق البلاد إلى منطقة مجهولة مع أزمة تلو الأخرى، والتي يبدو أن الحكومة غير قادرة على السيطرة عليها.
وأشار سهيل، وهو مهندس يبلغ من العمر 37 عاماً يعمل في مصنع لإنتاج الأجهزة المنزلية في أصفهان، إلى أن انقطاع التيار الكهربائي سيجبر المصنع على تسريح العمال وتقليص حجمه لأن انقطاع التيار الكهربائي أدى بالفعل إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج.
مسؤولون ومشاهير يدعون المواطنين لتقليص الاستهلاك
في الأثناء، تقود السلطات، على رأسها بزشكيان، حملة للمسؤولين والمشاهير عبر تسجيلات مصورة يحثون الإيرانيين على تقليل استهلاك الطاقة عن طريق خفض درجة حرارة منازلهم بمقدار درجتين على الأقل. وأظهرت مقاطع الفيديو على وسائل الإعلام الحكومية المجمع الرئاسي من دون أضواء في الليل.
كما لجات السلطات إلى قطع الغاز عن منازل عدتها لقضاء العطلة، إذ قال سعيد توكلي، رئيس شركة الغاز الحكومية، إن خدمة الغاز لنحو 73 ألف وحدة سكنية انقطعت، فهي منازل ثانية لعملاء بغرض قضاء العطلة في الجبال بالقرب من طهران وشواطئ بحر قزوين في الشمال.
ويعد الغاز الطبيعي مصدراً أساسياً لوقود محطات الكهرباء ومنشآت الصناعات الثقيلة والكيماويات في إيران التي لديها أكبر احتياطيات وقود في العالم بعد روسيا، وتوفره للمنازل في بلد يبلغ عدد سكانه نحو 90 مليون شخص، إذ بلغ استهلاك الغاز والكهرباء مستويات قياسية متتالية خلال العقد الماضي، ما أدى إلى ارتفاع إنتاج الغاز بنسبة 58% خلال العقد المنتهي في 2022، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
وفي خضم الأزمة، لجأت إيران إلى استيراد الغاز من روسيا. وفي يونيو/حزيران الماضي، قالت شركة الطاقة الروسية العملاقة “غازبروم” إنها وقعت مذكرة مع الشركة الوطنية الإيرانية للغاز لتوفير إمدادات غاز روسية لإيران.