مستقبل المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران في ضوء الانتخابات الأمريكية

قد ثبت أن العقوبات الأمريكية على إيران لم تجدي في إرغام طهران على الاستسلام؛ ما يعني أنه يتعين على الإدارة الأمريكية المقبلة إعادة تقييم خياراتها.

ميدل ايست نيوز: تُمَثِّلُ سياسة إدارة الرئيس ترمب تجاه إيران حاليًا فرصةً ضائعةً إلى حدٍ كبيرٍ، فقد ثبت أن العقوبات الأمريكية على إيران لم تجدي في إرغام طهران على الاستسلام؛ ما يعني أنه يتعين على الإدارة الأمريكية المقبلة إعادة تقييم خياراتها.

تناقش هذه الورقة المسارات المستقبلية المحتملة للمسألة الإيرانية في ضوء الانتخابات الأمريكية المقبلة، وبالنظر إلى علاقات طهران مع الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي، والإقليمي.

المسارات المحتملة في مستقبل العلاقات الأمريكية-الإيرانية

أدارت الولايات المتحدة التوترَ في منطقة الخليج مع إيران بشكل حذر طوال العامين الماضيين؛ ولم يرغب الجانب الإيراني أيضًا بالتصعيد. مع ذلك يظل الوضع حساسًا للغاية، إذ تبقى هناك إمكانية حقيقية لحدوث مواجهة عرضيّة تقود إلى صراع أوسع. وحققت حملة “الضغوط القصوى” الأمريكية نجاحًا اقتصاديًا كبيرًا من خلال تضييق الخناق على طهران بالعقوبات، لكنّ سياسة فرض العقوبات لم تُشكل استراتيجية شاملة تجاه إيران؛ حيث لم تشهد إدارة ترمب اتفاقًا داخلها حول الهدف النهائي لهذه السياسة: السعي إلى إسقاط النظام، أم الضغط على طهران حتى تعود إلى التفاوض مع واشنطن.

ولعل جُلّ ما يمكن لإدارة ترمب فعله الآن، وفيما تبقى لها من الفترة الرئاسية الأولى، يتمثل في منع تهاوي حملة “الضغوط القصوى”، أو انهيار نظام العقوبات المفروضة على إيران. وقد حاولت الإدارة الأمريكية خلال الأسابيع الأخيرة الضغط على “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” للقول بأن إيران تنتهك التزاماتها النووية، ومع ذلك فليس من المرجح أن يؤدي الضغط عبر الوكالة إلى تغيير جوهري في سياسات طهران. وكان واضحًا أن التصويت الذي شهدته الوكالة في 19 يونيو 2020 استهدف إبقاء إيران أولوية أمنية دولية.

لكنّ التصويت في الوكالة أظهر بوضوح أيضًا أن روسيا والصين ستعملان على عرقلة أي جهد دولي تقوده واشنطن بهدف فرض مزيد من الضغوط على إيران، كما أظهر أن الأوروبيين سيواصلون سياسة شراء الوقت لصالح إيران، لحين خروج ترمب من البيت الأبيض، أو لحين تغيير ترمب لنهجه تجاه المسألة الإيرانية.

وعلى الرغم من عدم ثقة الأوروبيين بسياسة ترمب تجاه إيران، فإنهم في الوقت نفسه يرون مخاطر حقيقية في برنامج طهران النووي، وهم مصممون على إبقاء إيران بعيدة عن امتلاك أسلحة نووية. وهذا هو السبب الذي دفع الأوروبيين للتصويت ضد طهران في الوكالة، لكنْ من المرجح أنهم لن يصوتوا ضد إيران في حال قيام واشنطن بطرح القضية للتصويت في مجلس الأمن. في غضون ذلك يرفض الأوروبيون – لغاية الآن – الموافقة على طلب واشنطن تمديد الحظر المفروض على بيع الأسلحة إلى إيران، والذي سينتهي في 18 أكتوبر 2020. وتشير الضغوط الرامية إلى تمديد هذا الحظر إلى افتقار الولايات المتحدة إلى خيارات جيدة أو بديلة، لفرض مزيد من الضغط على طهران.

وتتمثل الصورة التي رسمتها هذه النبذة المختصرة في أن مسألة إيران كقضية أمنية دولية تُعَدُّ مثارًا للخلاف، وتتسم بالتغيُّر المستمرّ، وترتبط بأجندات وأولويات القوى العالمية المتنافسة. وفي ضوء ذلك كله، يمكن القول إيران أمامها ثلاثة مسارات مختلفة بالنسبة لعلاقتها مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والإقليمي: مسار الحلّ الدولي عبر المفاوضات الشاملة مع الولايات المتحدة، وهذا المسار بدوره لديه مساران فرعيان، حيث يعتمد على من سينجح في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، ومسار الحل الإقليمي عبر مفاوضات إقليمية بإشراف دولي، وأخيرًا، محاولة تحقيق انفراج في العلاقات مع دول الجوار العربي لإيران لتخفيف التوتر على مستوى المنطقة عبر مسارات ثنائية:

1. مسار الحلّ الدولي عبر المفاوضات الشاملة مع الولايات المتحدة  

أ. في حال إعادة انتخاب الرئيس ترمب في نوفمبر المقبل لفترة رئاسة ثانية، يرجح أن تمضي المسألة الإيرانية عبر الاتجاهات المحتملة الآتية:

أولًا، مواصلة النهج الحالي، وعدم حدوث أي تغيير، بحيث تتحول المسألة الإيرانية إلى أزمة ممتدّة، وتتحول إيران تدريجيًّا إلى دولة فاشلة على غرار فنزويلا، لأن إبقاء العقوبات على إيران، لا ينطوي على أي كلفة سياسية داخلية بالنسبة لترمب. لكنَّ هذا السيناريو يعتمد كثيراً على رد فعل طهران، لأنه في حال تصعيد إيران، أو محاولتها امتلاك القنبلة الذرية، فإن عدم قيام واشنطن بأي إجراء، سيُلحق بها، وبحلفائها ضررًا سياسيًا بالغًا.

ثانيًا، قد يبدأ الرئيس ترمب محادثات جديدة مع إيران، وتقول طهران إنها مستعدة لمثل هذه المحادثات طالما أنها ليست مجرد “فرصة لالتقاط الصور” بحسب تعبير الرئيس الإيراني حسن روحاني. وكان روحاني قد أشار إلى أنه في حال رفع واشنطن للعقوبات المفروضة على بلاده، وتقديم “اعتذار” عندها يمكن بدء جولة جديدة من المحادثات. لكنَّ طهران في الحقيقة قد تكتفي بأقل من ذلك بكثير إذا ما أعيد انتخاب ترمب حيث تضيق خيارات طهران الأخرى. وقد يعود ترمب إلى العرض الذي تقدمت به فرنسا، والذي كاد أن يوافق عليه في صيف 2019، والذي كان سيوفر لإيران خط ائتمان (بنحو 15 مليار دولار)، وتمكين إيران من بيع نحو 500,000-750,000 برميل نفط يوميًا، مقابل عدم توسيع برنامجها النووي. وفي حال إحياء المبادرة الفرنسية هذه، فإن مثل هذا التنازل البسيط، قد يمهد الطريق أمام بدء محادثات بين طهران وواشنطن.

ثالثًا، تصعيد التوتر مع إيران إلى حد مواجهة عسكرية، غير أن هذا السيناريو غير مرجح، وإن كان محتملًا؛ ففي حال عودة ترمب إلى البيت الأبيض، فإنه لن يعود بحاجة إلى إيلاء قضية إيران والجماعات المناهضة لطهران التي دعمت انتخابه مثل هذه الأهمية. ويعلم ترمب أن قاعدته السياسية داخل الولايات المتحدة لا ترغب بتورط الولايات المتحدة في صراع عسكري جديد في الشرق الأوسط. وفي الحقيقة، فإن الكثير من المتشددين في مجال السياسة الخارجية في صفوف الجمهوريين يتنبَّؤُون بأن الفترة الثانية لترمب في حال إعادة انتخابه، ستركز بشكل أكبر على القضايا الداخلية مثل إعادة بناء البنية التحتية الأمريكية.

ويرغب الرئيس ترمب أن يترك إرثًا رئاسيًا لا يتضمن تدخلات عسكرية في العالم، وهو ما يتضح ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في خططه لتقليص عديد القوات الأمريكية في مناطق تمتدّ من أفغانستان، مرورًا بكوريا الجنوبية، ووصولًا إلى ألمانيا. في غضون ذلك، فإن بيجين وموسكو مصممتان على إحباط خطط واشنطن تجاه طهران؛ فالأمر لا يتعلق بإيران فحسب، بل بتحطيم الصورة العالمية للولايات المتحدة، ومكانتها كقوة عظمى منفردة. لذلك هناك عدد من العوامل التي تشير إلى أن قيام الرئيس ترمب بقيادة جهود حثيثة للتوصل إلى حل للأزمة مع إيران، أمرٌ غير مرجحٍ خلال فترة رئاسته الثانية في حال فوزه، إذ:

  • ستحاول روسيا والصين معارضة أي مبادرة تقودها الولايات المتحدة تجاه إيران؛ ما يجعل نجاح جهود دولية بقيادة واشنطن أمر غير مرجح على الأمد القريب.
  • سيواصل الأوروبيون تحفظاتهم إزاء سياسات الرئيس ترمب؛ وهو ما يرجح أن تسعى أوروبا إلى النأي بنفسها على أي جهود أمريكية جديدة للضغط على طهران، أو أية مبادرة من جانب ترمب لنزع فتيل الأزمة مع طهران، إلّا في حدود الدعم الشفوي.
  • افتقار ترمب نفسه للرغبة في أن يكون زعيمًا دوليًا؛ فهو ببساطة لا يمتلك رؤية من أجل السلام العالمي، بل مجرد رؤية محلية محدودة تتمحور حول ازدهار الولايات المتحدة، ودعم موقفه السياسي في نظر مؤيديه داخل الولايات المتحدة.

ب. في حال فوز المرشح الديموقراطي جو بايدن في الانتخابات

يتعمَّد مرشح الحزب الديمقراطي لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية جو بايدن الغموض حول ما يتوجب فعله تجاه إيران. ويدرك بايدن أن القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي ترغب في عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي مع إيران، لكنَّ بايدن في الوقت نفسه يرغب في مغازلة جماعات المصالح القوية نفسها التي دعمت ترمب في انتخابات 2016. فقد كان بايدن على سبيل المثال المرشح الديمقراطي الوحيد الذي حضر المؤتمر السنوي لـ “لجنة الشؤون العامة الأمريكية-الإسرائيلية” (أيباك).

وثمة بالفعل معركة سياسية كبيرة تجري بين مؤيدي بايدن الأصليين، وأنصار بيرني ساندرز الذين يُمثّلون الجناح اليساري للحزب، والذين يسعون الآن إلى تشكيل ملامح سياسة الحزب الديمقراطي تجاه إيران؛ فبعض كبار مؤيدي ومستشاري بايدن، مثل توني بلينكن، مُقرّبون من جماعة الضغط الاسرائيلية “أيباك”، وسيرغبون بمواصلة الضغط على إيران. وقال بلينكن بالفعل إن بايدن كرئيس سيُبقي عقوبات ترمب على إيران على أمل أن تعود طهران لإبرام اتفاق جديد مع واشنطن.

ويريد الجناح اليساري للحزب الديمقراطي، بما في ذلك جناح ساندرز، العودة بشكل أساسي إلى نهج أوباما تجاه إيران؛ ويعني ذلك ببساطة تجزئة الملفات الخلافية مع إيران، ولكن مع إعطاء الأولوية لعاملين: رفع العقوبات عن إيران حتى تلتزم مرة أخرى بشروط الاتفاق النووي لعام 2015، وعندها فقط يريد الجناح اليساري للحزب بدء حوار أوسع مع إيران حول جميع أنشطتها الأخرى التي تهم الولايات المُتحدّة وحلفائها الإقليميين. وخلاصة القول إن هناك اختلافًا كبيرًا في الرأي داخل الحزب الديمقراطي حول ما يتوجب فعله مع إيران. وربما هذا هو السبب الذي يجعل حملة بايدن الانتخابية مُترددة في تحويل هذه المسألة إلى قضية انتخابية كبيرة؛ إذْ إن من شأن طرح هذه المسألة تسليط الضوء على الخلافات القائمة داخل الحزب الديموقراطي بشأنها.

2. مسار الحل الإقليمي عبر مفاوضات إقليمية بإشراف دولي

لطالما روّجت طهران لفكرة الحوار مع دول الجوار، والتعاون الإقليمي، ولكن لم تُسفر هذه الجهود عن أي نجاح بسبب عاملين رئيسيين: انعدام الثقة من قبل مُعظم جيران إيران بطهران، وعدم وجود قوة عالمية راغبة في ضمان أي حوار إقليمي بين إيران وجيرانها. وليس هناك أدنى شك في أن طهران تريد بصدق خفض التصعيد مع دول الجوار، على الأقل في المدى القصير. ويعتقد النظام الإيراني أن الوقت يعمل لصالحه على المستوى الإقليمي؛ حيث سيشهد الشرق الأوسط – وفق الرؤية الإيرانية – باستمرار تحوّلات سياسية جذريّة، بحكم الضغوط والمطالب الشعبية المتزايدة، والتي تعمل في الغالب لصالح جماعات الإسلام السياسي المقرب من طهران.

ومع ذلك، ومن وجهة النظر الإيرانية أيضًا، وعلى المدى القصير، ينبغي على إيران كسر عزلتها الإقليمية، والسعي إلى التوافق مع أبرز دول المنطقة، لاسيما في الجوار الخليجي. وهذا هو السبب الذي جعل طهران تُطلق مؤخرًا خطة سلام إقليمية أطلقت عليها اسم “مبادرة هرمز للسلام”. ولعلّ التركيز على دول الخليج أمر مفهوم جدًا، إذْ ترى طهران أن دول الخليج في طليعة القوى التي تدعم الضغوط الدولية على إيران؛ وبالتالي، فإن خفض التصعيد مع دول الخليج يوازي تخفيض الضغط من الولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي على طهران.

ونتيجة انعدام الثقة الذي لا يزال مهيمنًا على علاقة إيران مع خصومها الإقليميين الرئيسيين، فإن بيئة الحرب الباردة القائمة حاليًا، لا يُمكن عكسها بشكل واقعي، إلّا إذا استطاع طرف ثالث قوي، أن يُقدّم ضمانات بشأن الانفراج في العلاقات بين إيران وجيرانها. وفي حين أن الجهود المُكرّسة لتحقيق الانفراج في العلاقات، دون توقُّع التوصل إلى حلول سياسية جذرية للمشكلات، يُمكن أن تحدث على أساس ثنائي فإن الحلول السياسية تتطلب إحراز تقدّم على المستوى الإقليمي؛ وهو ما يتطلّب زخماً أوسع على مستوى المنطقة، ويُفَضّل أن يتم ذلك بدعمٍ من قوة عالمية بارزة، والتي يُمكن أن تكون من ناحية واقعية الولايات المتحدة، حيث لا توجد بدائل.

وثمة احتمال أن ترغب رئاسة بايدن – في حال نجاحه – باختبار هذا الاقتراح الإيراني بخفض التصعيد الإقليمي، وأن تكون واشنطن مُستعدة لتقديم الضمانات بهذا الخصوص؛ فأوراق السياسة التي أعدّها مُحلّلون مُقرّبون من فريق بايدن في واشنطن، تتحدّث عن ضرورة القبول السريع بفكرة التعايش مع إيران، وأن هذا التعايش لا يُمكن أن يرتكز فقط على صفقة نووية؛ إذ يتطلّب الأمر تسوية شاملة، بما في ذلك خفض التصعيد الإقليمي. ومن بين التوّصيات المذكورة، عودة الرئيس بايدن بسرعة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، والانطلاق الفوري لتوسيع الحوار مع طهران. وببساطة، لا يُمكن أن يقتصر الاتفاق الجديد مع طهران على عدد أجهزة الطرد المركزي التي يُمكن أن تشغّلها طهران، أو مدى صواريخها الباليستية. وبناء على ذلك، ومن أجل إجراء محادثات أوسع نطاقًا لخفض التصعيد في المنطقة، فمن الضروري أن تجد طهران وواشنطن بسرعة، آليةً مُناسبةً، وتبدآن هذه العملية من جديد لضمان دعم جيران إيران لهذه العملية.

وإذا سار بايدن على هذا الطريق، فمن المرجح أن يتلقّى الدعم من الأوروبيين، بينما ستسعى روسيا والصين للدفع ضدّ هذه العملية. ويجب ألا ننّسى، أن الصين لا تتّخذ أي مبادرات لتصبح قوة “بناء سلام” في الشرق الأوسط، وأن جهود روسيا لا تزال لغاية الآن نسخة عن أفكار هندسة الأمن الإقليمي السوفيتي القديمة التي لم تُحرز أي تقدم على الإطلاق. وبالتالي فإن واقع الافتقار لبديل من شأنه أن يمنح جهود بايدن نحو خفض التصعيد بقيادة الولايات المتحدة زخماً أكبر.

3. محاولة تحقيق انفراج في العلاقات مع دول الجوار عبر مسارات ثنائية

لطالما سعت طهران إلى تحقيق انفراجات في العلاقات الثنائية مع دول الجوار، باختيارها وليس بدافع الاضطرار. ويمكن إضافة أذربيجان، وعُمان، والكويت، وقطر، وتركيا، وباكستان، إلى قائمة دول الجوار التي جربت علاقات طبيعية مع إيران. وحالياً، تبدو شهية طهران للمفاوضات الثنائية مع جيرانها الخليجيين مفتوحةً، وصريحةً، عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الثنائية، لكن طهران تصبح أكثر حذرًا، وترددًا عند طرح المسارات الجماعية.

وفي حين أنه من المُمكن بذل جهد إقليمي مدعوم من الولايات المتحدة نحو خفض التصعيد بين دول الخليج العربية وإيران، فإن طهران ستواصل تفضيل الانخراط مع جيرانها على أساس ثنائي. ويتجلّى ذلك بشكل أفضل من خلال الطريقة التي تتعامل بها طهران مع علاقاتها المُتعدّدة الأوجه مع عُمان.

مسارات المسألة الإيرانية بين ترمب وبايدن

تتعلق نقطة البداية دومًا بالتقبل السياسي في واشنطن لقيام دول المنطقة بدفع الولايات المتحدة باتجاه أو بآخر حول سياسة واشنطن في الشرق الأوسط. وكان من الواضح أن إدارة ترمب كانت منفتحة للغاية سياسيًا تجاه عمليات الضغط التي تقوم بها الدول الإقليمية الرئيسة لمواجهة، وتقويض قدرات إيران إلى أكبر قدر ممكن. لكنَّ قابلية إدارة ترمب حتى في هذا المجال كانت محدودة: فقد كان الرئيس ترمب منفتحًا على مواجهة إيران طالما اقتصر الأمر على فرض عقوبات اقتصادية، وعدد قليل من الضربات العسكرية المحدودة (مثل اغتيال قاسم سليماني). لكنَّ ترمب لم يُبدِ أبدًا اهتمامًا بالانخراط في حرب شاملة مع إيران. كما أن ترمب لم يدفع بشكل جادّ باتجاه تشكيل كتلة إقليمية مناهضة لإيران. ومن غير المرجح أن تتغير هذه المعادلة في حال إعادة انتخاب ترمب لفترة رئاسية ثانية.

ومن المرجح أن رغبة ترمب بالذهاب نحو سياسة جديدة في مواجهة طهران ستكون محدودة للغاية؛ حيث لا يمتلك ترمب، ودائرته الداخلية الخلفية أو الخبرة أو الاهتمام أو الصبر في مجال السياسة الخارجية، الضروريات للانخراط في جهد متعدّد المستويات، والجبهات، للتوصل إلى اتفاق جديد بقيادة إقليمية مع إيران، أو حتى تقديم الدعم السياسي لمثل هذا الاتفاق.

كما أن إدارة ترمب لا تمتلك العمق أو الوضوح الفكري حيال ما يتوجب فعله إزاء إيران أو كيفية القيام بذلك، لأن أي سياسة تهدف إلى خفض التصعيد واحتمال التوصل إلى اتفاق إقليمي تتطلب عددًا من العناصر المهمة الآتية:

  • رؤية استراتيجية تطرحها واشنطن
  • تقبل إيجابي من جانب دول المنطقة
  • عدم حدوث أي تخريب من جانب منافسي واشنطن على مستوى العالم (روسيا والصين).

ولعل فكرة وضع “رؤية استراتيجية” لمنطقة الشرق الأوسط أمر غير مرجح خلال وجود ترمب في البيت الأبيض، لذلك فليس أمام دول المنطقة ما تدعمه أو ترفضه؛ ما يعني أن الأمور ستظل على حالها. في غضون ذلك، فإن الأوروبيين منقسمون على أنفسهم فيما يتعلق بوضع “رؤية استراتيجية” للشرق الأوسط. كما أنه لا يوجد أمام بيجين أو موسكو بالفعل ما تعمل على تخريبه ما دام ترمب في المنصب. ولم تُظهر الصين أو روسيا القدرة على إنتاج مبادرة يمكنها ضمان مستقبل مختلف للمنطقة، لذلك فإنه من دون وجود خطة، فليس بالإمكان إنهاء التوتر في المنطقة.

لكنَّ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، قد يعمل على تغيير كافة العوامل المذكورة سابقًا، بحيث:

  • قد يسعى بايدن في حال توليه الرئاسة إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية نحو تحقيق مثاليات الليبرالية الدولية؛ ما يعني مرة أخرى، حشد الحلفاء، وتجديد التحالفات مثل “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، كما قد يعني هذا أيضًا، وضع هياكل أمنية جديدة في الأجزاء غير المستقرة من العالم مثل الشرق الأوسط.
  • في حال عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، فمن المحتمل أن يمهّد ذلك إلى اتفاق إقليمي متمّم للاتفاق النووي، وعندها سيتعين على طهران وواشنطن الدخول في مفاوضات حول الخلافات الإقليمية التي أغفلها الاتفاق النووي. وفي هذه الحالة سيتعين على واشنطن عدم السماح لأي دولة في المنطقة بلعب دور تخريبي، بما في ذلك إسرائيل، كما يتعين تحديد الأولويات. وإذا ما أرادت واشنطن الحصول على دعم أهم دول المنطقة لأي جهد تقوده باتجاه التوصل إلى اتفاق إقليمي يشمل إيران، فإن من الضروري أن تكون عملية التفاوض تدريجية ومتعدّدة المستويات.

وبحسب هذا النهج المُتدرّج، سينخرط الإيرانيون، ودول المنطقة بشكل أساسي في عملية مُتدرّجة ومرحليّة من خفض التصعيد. ولن تتحوّل إيران عن عداوتها الأيديولوجية تجاه الدولة اليهودية، لكنها يُمكن أن توافق على تنازلات أخرى، مثل خفض أعداد القوات العسكرية التي تحتفظ بها في سوريا، ومراقبة عمليات الإمداد، وتحديد مواقع نشر الصواريخ والمعدّات العسكرية الإيرانية الأخرى التي تجد إسرائيل فيها تهديدًا لها، وما إلى ذلك من أمور. وبالمُقابل، سيطالب الإيرانيون بقبول إسرائيلي لخفض التصعيد الإقليمي الذي توسّطت فيه الولايات المتحدة، أو يطالبون بتنازلات أخرى من إسرائيل.

وأخيراً، يجب أن نتذكّر أن العالم قد وصل إلى مرحلة جديدة من تعدّدية القطبية. وفي المرحلة الأولى، قد تتحرّك سياسة الولايات المتحدة في عهد بايدن باتجاه منع حدوث تمدّد أكبر من جانب روسيا والصين في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يمنح للولايات المتحدة مُبرراً أقوى للبحث عن طرق لوضع اتفاقية إقليمية. وفي حال عدم خفض التصعيد الإقليمي، سيجد الروس والصينيون حرية أكبر في ملء الفراغات الأمنية التي يخلقها التنافس الإقليمي المتواصل. ومع توافر الإرادة والأجندة السياسية الصحيحة، وفي حال وجود شهية لدى بايدن لإعادة الولايات المتحدة لتكون قوة ديمقراطية ليبرالية “تدخليّة”، يُمكن للولايات المتحدة أن تضمن عدم قدرة روسيا والصين على استغلال الأزمة بشأن إيران كوسيلة لتحقيق المزيد من التقدّم في أجندتيهما في الشرق الأوسط. وسواءً كان المقصود بذلك الولايات المتحدة أو إيران أو إسرائيل أو دول مجلس التعاون الخليجي، فمن الواضح أن المطلوب هو البدء بوضع رؤية ما، تهدف إلى خفض التصعيد، وهذا الأمر لا يزال مفقوداً لغاية الآن. وتتطلب هذه العملية العملية التي تهدف إلى إطلاق الحوار، وفي أي شكل تأخذه، وضع تسلسُلٍ للأولويات، بما في ذلك الخطوات التي تهدف إلى بناء الثقة، من قبل جميع الفاعلين المُنخرطين في هذه العملية، سواءً كان ذلك على المستوى الإقليمي أو الدولي.

الاستنتاجات العامة

  • يُشير عددٌ من العوامل، كما هو موضّح أعلاه، إلى أنه من غير المرجّح أن يُفكّر الرئيس ترمب – إذا ما أُعيد انتخابه – في طرح أي مبادرات أمنية كبيرة للشرق الأوسط. وسيكون من الخطأ أن نأمل أو نعتمد على ترمب باعتباره شخصاً سيتصرّف بشكل مُختلف كثيراً إزاء الشرق الأوسط في فترة ولاية رئاسية ثانية مُحتملة. وفي الغالب لن يُبدِ اهتماماً بهذا الشأن وسيتعامل مع دول المنطقة على أساس فردي حيث إن أسلوبه الذي يستند إلى المقايضة وتحقيق الأرباح سيُبطل جهود السلام.
  • ثمة فرصة أكبر بكثير أن ترغب رئاسة بايدن، بحكم التزامها بتقاليد السياسة الخارجية الديمقراطية الليبرالية الأمريكية، في التدخّل في نزاعات الشرق الأوسط. وستحظى فكرة بناء هيكل أمني مدعوم من الولايات المتحدة للشرق الأوسط بدعم أوروبي. ومع ذلك، يبقى السؤال قائمًا حول أي جناح في الحزب الديمقراطي سينتصر؛ الحمائم (أنصار ساندرز) أم الصقور (أنصار بايدن)؟ ومن ينتصر هنا هو أمر مهم، لأن نهج الحزب الديمقراطي المُتشدّد تجاه إيران، قد يعني أن طهران لن تكون راغبة في الانخراط في عملية لتحقيق انفراج في العلاقات الإقليمية بقيادة الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال فإن إطلاق مبادرة للأمن الإقليمي بدون إيران هي بالتأكيد فكرة غير مجدية.
  • يُشكّل المتشددون الذين يصرون على فكرة الإطاحة بالجمهورية الإسلامية أقليةً صغيرةً في واشنطن، وبطبيعة الحال لا يرى هؤلاء أي جدوى من بذل المساعي لاستيعاب إيران كجزء من جهد أمني إقليمي. وبغض النظر عن الحقيقة القائلة بأن تغيير النظام في طهران قد يُغيّر بيئة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط بين عشية وضحاها، لم يأت أحد من هؤلاء المتشددين – لغاية الآن – بخطة ذات مصداقية، أو قابلة للتطبيق حول كيفية إطاحة النظام الإيراني، وبالتالي يظل موضوع إطاحة النظام – حتى يومنا هذا – مُجرّد حُلم.
تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
مركز الإمارات للسياسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة عشر + 14 =

زر الذهاب إلى الأعلى