تركيا وإيران وأزمات المياه في سوريا والعراق

قد تحوّلت الأنهار، التي كانت تمثل شرايين حياة للبلدين إلى مجرد مستنقعات، مع قيام تركيا وإيران بعمل إنشاءات مائية أسهمت في تخفيض تدفق مياه الأنهار بدرجة كبيرة.

ميدل ايست نيوز: دقّ انخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات، ناقوس الخطر في سوريا والعراق من أزمة مياه تطال البلدين، اللذان يعانيان من أزمات سياسية واجتماعية وحروب لا يوجد أفق لنهايتها. وقد تحوّلت الأنهار، التي كانت تمثل شرايين حياة للبلدين إلى مجرد مستنقعات، مع قيام تركيا وإيران بعمل إنشاءات مائية أسهمت في تخفيض تدفق مياه الأنهار بدرجة كبيرة، الأمر الذي ينذر بتداعيات خطيرة توازي من حيث أثارها السلبية، التداعيات التي سببتها الحروب للبلدين، وخاصة لجهة التغيير الديمغرافي وتدمير العملية الاقتصادية، إذ لا زالت الزراعة في البلدين تسهم بنسبة عالية في حاصل ناتجهما القومي.

أساس المشكلة

يرجع أساس مشكلة انخفاض تدفق مياه نهري دجلة والفرات إلى تنفيذ تركيا مشروع “غاب”، الذي تضمن بناء مجموعة من السدود على نهري الفرات ودجلة، بهدف مضاعفة حجم الأراضي المروية في منطقة الأناضول وتأمين طاقة كهربائية من السدود. وتحتاج سلسلة السدود هذه إلى ملئها سنوياً، وفي سنوات الجفاف تستهلك تركيا غالبية مياه النهرين، على حساب حصص كُلٍّ مِنْ سوريا والعراق.

وقامت تركيا مؤخراً بإغلاق بوابات عبور مياه الفرات إلى سوريا، ما أدى إلى انخفاض منسوب المياه إلى حد كبير، حيث لم تتجاوز نسبة المياه المتدفقة 200 متر مكعب في الثانية، “خلافاً للاتفاقية السورية التركية للعام 1987، التي تنص على أن تضخ تركيا المياه بمعدل 500 متر مكعب في الثانية، ويحصل العراق على 60% منها”.

على الجانب الإيراني، أَقرَّت الحكومة عام 2011 مشروعاً لبناء 152 سداً، يقع بعضها على نهري سيروان والزاب الأسفل، اللذان يشكلان روافد لنهر دجلة، بعد دخولهما للعراق من محافظة السليمانية، وقامت إيران في السنوات الأخيرة بقطع مياه النهرين بالكامل في فصل الصيف، مما أثر بشكل كبير على المخزون المائي لسدِّي دربنديخان ودوكان في محافظة السليمانية، وكذلك على المواطنين والزراعة في حوض النهرين، حسب ما ادعت السلطات العراقية، رغم أن إيران نفت ذلك.

وزاد من نكبة نهر دجلة تحويل تركيا المياه إلى سد أليسو، مما أدى إلى انخفاض حصة العراق من مياه النهر إلى 50 بالمئة، وحسب التقديرات، سيُحرَم 696 ألف هكتار من الأراضي الزراعية العراقية من المياه، ويُخفِّض الوارد المائي بمقدار 11 مليار متر مكعب. وتفيد التقارير الدولية أن العراق خسر في السنوات العشر الأخيرة نحو 80% من المياه المتدفقة إليه من إيران بعد قطعها نحو 35 رافداً رئيساً، وذلك وفقاً للجنة الزراعة والمياه النيابية العراقية، إذ أشارت اللجنة إلى أن المتبقِّي من الروافد الإيرانية 7 فقط، وأن إيران بصدد بناء نواظم وسدود جديدة في السنوات المقبلة، على الرغم من أن لدى العراق وإيران اتفاقاً أُبرِمَ في الجزائر عام 1975 يتضمن بروتوكولاً خاصاً بالمياه.

الأُطُر الناظمة للعلاقات المائية بين تركيا وسوريا والعراق

لا تعترف تركيا بأن الفرات ودجلة نهرين دوليين، وإنما تعتبرهما نهرين عابرين للحدود، إذ تستخدم تركيا في خطابها مصطلح “المياه العابرة للحدود”، بدلاً من “الأنهُر الدولية”، بما يتبع ذلك من خضوعهما للسيادة المطلقة للدولة التركية، ويبيح لها ذلك حقّ التصرف في كمية المياه التي تمنحها للدول المتشاطئة الأخرى، في حين تستخدم هي ما تشاء لسد حاجتها من مياه النهرين، وهو ما اعتبره بعض الخبراء بمثابة “تتريك للنهرين”.

واضطرت تركيا في عام 1975، وبناءً على وساطة لجنة البنك الدولي، باعتبار أن البنك هو الممول الرئيس للإنشاءات المائية على السدود النهرية، إلى تقسيم حاجات البلدان الثلاثة بنسبة الثلث لكل منها على متوسط الوارد السنوي، لكن تركيا نقضت هذا الاتفاق وعقدت مع سوريا في عام 1987 بروتوكولاً منحها 50 في المائة من واردات النهر الوسطية السنوية لتعبئة خزان سد أتاتورك لغاية نهاية عام 1993، ثم تعود حصة تركيا إلى نسبة الثلث.

إلا أن هذه الاتفاقيات بقيت مؤقتة، وترتبط بدرجة كبيرة بالعوامل السياسية المحيطة بالبلدان الثلاثة، والتطورات الميدانية التي تشهدها، حيث تعتبر تركيا الحلقة الأقوى في هذه القضية كونها تسيطر على منابع أبرز الموارد المائية التي تغذِّي سوريا والعراق (الفرات، ودجلة).

استراتيجية تركيا المائية

تعتمد تركيا في إدارة مشكلاتها المائية مع جوارها العربي على مبدأ فرض الأمر الواقع، مُستثمرة في ذلك حالة الضعف التي تنتاب كلاً من سوريا والعراق، وعدم قدرتهما على أكثر من الاعتراض اللفظي، نظراً لفارق القوّة بين الطرفين، وباعتبار تركيا عضواً في الحلف الأطلسي.

وكانت القيادات التركية قد صرَّحت سابقاً أن من حق بلادهم استثمار الثروة المائية، كما تستثمر الدول العربية الثروة النفطية، ما يُؤشر على طموح تركيا بمبادلة مياه نهري دجلة والفرات بنفط وغاز سوريا والعراق. وقد طرحت تركيا في وقت سابق فكرة تحويل المياه إلى سلعة وبيعها إلى إسرائيل (مشروع أنبوب السلام)، غير أنها لم تجد من يموّل هذا المشروع، وقد اشترت إسرائيل بالفعل كميات من المياه التركية تم نقلها بعبوات بلاستيكية من خلال السفن إلى إسرائيل.

وتستخدم تركيا مسألة المياه سلاحاً للإبتزاز والضغط على سوريا والعراق لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية؛ فلم تُفعِّل تركيا اتفاقها مع سوريا إلا بعد التوقيع على اتفاق أمني في سبتمبر 1992 تمنع سوريا بمقتضاه أنشطة حزب العمال الكردستاني في سوريا ولبنان، وملاحقة القوات التركية للحزب داخل سوريا.

ويؤخذ على حكومات سوريا والعراق عدم الرد على تركيا بنفس أسلحتها، إذ يستورد العراق من تركيا بما يعادل 20 مليار دولار، وما يعادل 10 مليارات دولار من إيران، وهذه الميزة، إن أرادت الحكومة العراقية استغلالها، فإنها يمكن أن تَستغِل الاقتصاد ورقة ضغط لتُجبر تركيا وإيران على الالتزام بالمعاهدات والاتفاقات الموقعة سابقاً. وكانت سوريا تمثل ممر تركيا إلى العالم العربي، ومنح النظام السوري لتركيا الكثير من المزايا الاستثمارية في سوريا، في مرحلة ما قبل الثورة، ورغم ذلك لم يُحسِن استثمار هذه الأوراق لتحقيق وضع متوازن في مسألة مياه نهر الفرات.

تداعيات أزمة المياه

توقع المحلل الاستراتيجي الأمريكي روبرت كابلان في كتابه المعنون “انتقام الجغرافيا” الصادر عام 2013 أن يؤثر نقص المياه في سوريا والعراق على الاستقرار السياسي والمجتمعي في البلدين، لدرجة يمكن أن تؤدي إلى تفككهما وتحوُّلهما إلى ولايات تابعة لتركيا وإيران.

وبالفعل شكلت أزمات المياه في سوريا والعراق عامل عدم استقرار، إذ تشير الكثير من الدراسات إلى أن أزمة الجفاف التي حصلت في سوريا أعوام 2008 و2009، والتي أدت إلى نزوح أكثر من مليون شخص من المناطق الشرقية في سوريا إلى درعا ودمشق، كانت أحد مُسبِّبات ثورة 2011، ولا تختلف عن ذلك أحداث العراق التي بدأت في البصرة وامتدت إلى محافظات وسط العراق 2018 نتيجة النقص الهائل في مياه الشرب بعد قيام إيران بقطع روافد نهر دجلة.

ويتوقع الخبراء أن تُؤدي أزمات المياه في سوريا والعراق إلى تغيير الكثير من ملامح البلدين المعروفة اليوم، وخاصة على صُعُد التوزُّع السكاني وأساليب الإنتاج وأنماط الاستهلاك، الأمر الذي من شأنه إدامة حالة عدم الاستقرار لآجال طويلة، وربما انتقال هذه الحالة إلى دول الإقليم الأخرى نتيجة اضطرار أعداد كبيرة من سكان البلدين إلى الهجرة بعيداً عن أرض الموات.

خلاصة

من شبه المؤكد أن تركيا وإيران لن تتراجعا عن سياساتهما المائية تجاه الجوار العربي، نتيجة إدراكهما عدم وجود عواقب على هذه السياسات، وبالعكس تشكل أزمات المياه في سوريا والعراق مداخل مهمة لزيادة نفوذ وتأثير تركيا وإيران في هذين البلدين، وخاصة أن المياه، أو “الذهب الأزرق” كما يُطلِق عليه البعض، سيكون قضية العقود المقبلة الأهم، ومَن يتحكم بصنبور المياه ستكون له قدرة على التحكم بالتوجهات السياسية للدول المنكوبة بالفقر المائي.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
مركز الإمارات للسياسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى