إيران والولايات المتحدة.. هل تتفاوض طهران مع “قاتل”؟

يبدو رفض ومعارضة تفاوض إيران مع الولايات المتحدة بحجة اغتيال الجنرال قاسم سليماني، موقفًا غير متسق مع نهج إيران التاريخي، فالدبلوماسية ليست تصالحًا مع الماضي، بل استثمار في المستقبل.

ميدل ايست نيوز: بعد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في العراق مطلع عام 2020 وتصاعد مشاعر الانتقام بين أنصاره داخل إيران، برزت جماعات متشددة نددت بالحادثة وأعلنت بكل صراحة “بعد سليماني، من يتحدث عن التفاوض مع واشنطن سنملأ فمه دماً”. العجيب في الأمر أن تلك الأصوات اختفت تماما عن المشهد خلال حكومة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، لكنها بدأت تعود مجددًا للظهور مع تفعيل الجناح الدبلوماسي لإيران خلال حكومة بزشكيان، لتسمع من جديد في مختلف الأوساط والمواقف السياسية.

يقول المعارضون للتفاوض بين طهران وواشنطن “بما أن يد أمريكا ملطخة بالدماء، فلا يحق لأحد أن يتحدث عن التفاوض”. ورغم أن هذه الاستراتيجية التي تقوم على “الحرب حتى النصر” لا تحدد مسارًا أو هدفًا واضحًا، إلا أن صخب هؤلاء وضغوطهم الشديدة والفوضى التي يخلقونها تخلق أثرا بين الساسة والمفاوضين الإيرانيين. لكن من المهم أن نعرج قليلا على سطور التاريخ الإيراني لنختبر صحة حجج ما تقوله هذه الجماعة.

حزب البعث ومجزرة النصف مليون إيراني

تشير التقديرات إلى أن الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت لمدة ثماني سنوات أسفرت عن مقتل نحو مليون شخص من العسكريين والمدنيين من كلا الطرفين. كان من بين القتلى نحو 500 ألف إيراني، علما أن بعض الخبراء يعتقدون أن عدد القتلى من الجانب الإيراني قد يتجاوز ذلك. فقد قتل بين 123-160 ألف إيراني في العمليات العسكرية، بينما فُقد حوالي 60 ألف جندي إيراني خلال تلك العمليات. كما أصيب بين 320-500 ألف إيراني بجروح أو إعاقات، ناهيك عن أن عدد القتلى المدنيين الإيرانيين قد تجاوز 16 ألف قتيل.

ومع ذلك، لم تضع إيران أي عائق أمام التفاوض مع الجانب العراقي، بل وقعت اتفاقية سلام مع هذا البلد. كما كان هناك طريق مفتوح للتجارة بين إيران والعراق قبل سقوط حكومة صدام حسين.

إسقاط طائرة إيرانية وتعويضات أمريكية

في عام 1987، وقبل نهاية الحرب بين إيران والعراق، استهدفت الولايات المتحدة الطائرة الإيرانية 655 في مضيق هرمز وأسقطتها. وقع هذا الحادث عندما كان آية الله خامنئي رئيسًا لإيران ورونالد ريغان رئيسًا للولايات المتحدة وأسفر عن مقتل 241 إيرانيًا كانوا على متن الطائرة المتجهة إلى دبي. توصلت إيران وأمريكا إلى اتفاق يقضي بتعويض من أمريكا للحكومة الإيرانية وذوي الضحايا.

وبعد هذه الحادثة، دخلت إيران وأمريكا في عدة مفاوضات، بما في ذلك خلال فترة الهجمات الأمريكية على أفغانستان والعراق، وكذلك المفاوضات السرية والعلنية في دول وسيطة مثل عمان وجنيف. كانت المفاوضات التي أدت إلى اتفاقية “البرنامج النووي الإيراني” فصلاً قصيرًا من سلسلة مفاوضات طويلة بين إيران وأمريكا بعد الثورة الإسلامية.

مذبحة الحجاج الإيرانيين في السعودية

في عام 1986، قتل 275 حاجًا إيرانيًا خلال حادثة يطلق عليها الإيرانيون “مذبحة الحجاج في مكة” عندما اندلعت اشتباكات بين الشرطة السعودية والحجاج الإيرانيين خلال شعيرة “البراءة من المشركين” الخاصة بالإيرانيين. على الرغم من أن هذا الحادث أدى إلى تدهور العلاقات بين إيران والسعودية لفترة من الزمن، إلا أنه لم يغلق باب التفاوض والعلاقات الدبلوماسية بين البلدين بشكل نهائي. ثمة أيضا العديد من الحوادث الأخرى التي أدت إلى سفك الدماء بين شعوب البلدين، بما في ذلك القوانين الصارمة التي تفرضها السعودية على حيازة المخدرات والأدوية، بالإضافة إلى إعدام بعض الحجاج الإيرانيين بتهمة حيازة المخدرات.

على مدار الأربعين عامًا الماضية، انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية عدة مرات، لكن مسار الدبلوماسية ظل دائمًا مفتوحًا. فقد كانت هناك مفاوضات بين البلدين في العديد من المواضع حول قضايا متعددة. حتى وإن تدهورت العلاقات إلى حد إغلاق السفارات بين الطرفين، إلا أن القنوات الدبلوماسية لم تُغلق بشكل كامل.

مقتل دبلوماسيين إيرانيين على يد طالبان

خلال الفترة الأولى التي سقط فيها النظام في أفغانستان، عندما سيطرت طالبان على البلاد، تعرضت السفارة الإيرانية في مزار “شريف” لهجوم أسفر عن مقتل تسعة إيرانيين، بينهم عدة دبلوماسيين وصحفيين. بعض جثثهم لم يتم العثور عليها أبدًا. كانت طالبان وباكستان مسؤولتين عن الهجوم، ومع ذلك، بعد سقوط حكومة طالبان في عام 1998، استمرت إيران في التفاوض مع طالبان وعادت لإقامة علاقات دبلوماسية معها.

باكستان ملاذ لجماعة جیش العدل الإرهابي

إلى جانب كونها مسؤولة عن الهجوم على السفارة الإيرانية في مزار شريف، كانت باكستان على مدار السنوات الماضية مسؤولة عن إيواء جماعات مصنفة على أنها إرهابية على أراضيها، بما في ذلك جماعة جیش العدل التي تورطت في هجمات داخل إيران. بالإضافة إلى ذلك، في عام 2023، كانت باكستان مسؤولة عن مقتل عشرة أشخاص في إحدى القرى الإيرانية خلال هجوم انتقامي، من بينهم خمس نساء وأربعة أطفال.

مع ذلك، لم تنقطع العلاقات الدبلوماسية مع باكستان أبدًا، بل استمرت اللقاءات السياسية على أعلى المستويات بين البلدين.

وفي ضوء هذه الخلفية، يتضح أن تاريخ إيران حافل بتجارب تفاوضية مع أطراف كانت في يوم من الأيام ألدّ أعدائها، رغم تورطهم في إراقة الدماء الإيرانية. من العراق بعد حرب دامت ثماني سنوات، إلى أمريكا التي أسقطت طائرة مدنية إيرانية، والسعودية بعد مذبحة الحجاج، وحتى طالبان وباكستان اللتين تورطتا في مقتل دبلوماسيين إيرانيين. كل هذه الدول كانت طرفًا في صراعات دامية، لكن طهران لم تغلق أبواب الحوار معها ولا زالت تجمعها معها علاقات تجارية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية.

لذلك، يبدو رفض التفاوض مع الولايات المتحدة بحجة اغتيال الجنرال قاسم سليماني، في ظل كل تلك السوابق، موقفًا غير متسق مع نهج إيران التاريخي. فالدبلوماسية ليست تصالحًا مع الماضي، بل استثمار في المستقبل، وأي دولة تسعى لحماية مصالحها عليها أن تبقي كل الخيارات مفتوحة. التفاوض ليس تنازلاً، بل أداة إستراتيجية لضمان الأمن القومي وتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية في عالم لا يعترف إلا بلغة المصالح.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر + ثمانية عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى