إيران والعملية التفاوضية: بدء أم استئناف التفاوض؟
لقد تكونت لدى طهران قناعة بأن حالة عدم الثقة يجب أن ترافق مسار العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب فيما يتعلق بالتفاوض.
ميدل ايست نيوز: كان من اللافت أن يستخدم نائب وزير الخارجية الإيراني، علي باقري كني، تعبير “بدء المفاوضات” وليس استئناف المفاوضات وهو يعلن من خلال حسابه على تويتر أن موعد العودة إلى المفاوضات بين إيران والمجموعة الدولية سيكون في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2021؛ وجاء ذلك على حدٍّ سواء في النص الإنجليزي(start) والفارسي (آغاز)؛ مما يشير إلى رؤية تفاوضية مختلفة لفريق التفاوض في حكومة رئيسي مقارنة بالفريق الذي قاد العملية التفاوضية لثماني سنوات في حكومة حسن روحاني.
يتزامن الإعلان المتعلق بالمفاوضات مع تطور آخر يتعلق بحرب السفن في المنطقة، وإعلان إيران عن استعادة ناقلة نفط بعملية إنزال بعدما استولت عليها القوات الأميركية، وتحدثت إيران عمَّا يشبه المواجهة بين القوات البحرية التابعة للحرس الثوري والقوات الأميركية في بحر عُمان، فيما قالت مصادر أميركية إنها اكتفت بالمراقبة ولم تتدخل في العملية، في روايتين متناقضتين لما حدث.
وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية قد تجنَّبت الإعلان عن الحادث حتى لا يقع تشويش على الجهود الدبلوماسية الحثيثة الهادفة لاستئناف المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني، فلم يكن هدف إيران من الإعلان عنه وتوثيق ذلك بالصوت والصورة ببعيد عن عنوان المفاوضات أيضًا ولكن من زاوية مختلفة.
ويتزامن ذلك أيضًا مع تصريحات حملت رسائل محذِّرة جاءت على لسان رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، رافايل غروسي، الذي وصف مراقبة البرنامج النووي الإيراني، بالتحليق عبر السحب الكثيفة.. وأن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر هكذا لفترة أطول.
وفي وقت تحيي إيران فيه ذكرى اقتحام السفارة الأميركية في طهران، يتحدث وزير استخباراتها، إسماعیل خطیب، عن مواصلة العمل لـ”إخراج القوات الأميركية من المنطقة”، وهو الهدف الذي أعلنته الجمهورية الإسلامية عقب اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، بطائرات أميركية مسيَّرة في مطار بغداد مطلع 2020. ويؤكد أن “مشروع تحجيم المخاوف من أميركا قد حقق ثماره..، وسيضطر على خلفية هزائمه لأن يغادر الدول الإقليمية التي يحتلها الواحدة تلو الأخرى وهو صاغر”.
خاضت إيران في الشهور الأخيرة من حكومة حسن روحاني جولات تفاوض مكثفة مع المجموعة الدولية لإحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015، والمعروف رسميًّا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، لكن المفاوضات -ورغم الحديث المتفائل عن التقدم في المحادثات- لم تصل إلى نتيجة، وأعطى ذلك مؤشرًا كبيرًا على تعقيد القضايا التي تناولتها جلسات التفاوض، كما أنه كشف عن ضيق المساحة التي أُعطيت للمفاوِض الإيراني مقارنة بالفترة التي أفضت إلى إنجاز الاتفاق.
أجرت إيران انتخابات رئاسية وجاءت بنخبة أصولية لديها نظرة مختلفة إلى العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، والطريقة التي يجب أن يدار بها ملف العقوبات. وجرى تعيين شخصيات لم تكن راضية عن الاتفاق النووي وانتقدته بشدة لتدير ملف التفاوض، وينسحب ذلك على وزير الخارجية، عبد اللهيان، ونائبه، باقري كني، ومدير الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية، محمد إسلامي. ومع ذلك، لا يمكن القول بأن إيران غير مهتمة بالوصول إلى صفقة، ولكن الفريق التفاوضي الجديد يتحرك بصورة مغايرة للفريق السابق، كما أنه يتحرك في بيئة أصولية تنسجم معه وتدعمه.
بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي، عام 2018، وإعادة فرض العقوبات وانتهاج سياسة “الضغط الأقصى”، لجأت إيران، منذ العام 2019، إلى خطة متدرجة لتخفيض التزاماتها بالاتفاق النووي ودخل مجلس الشورى الإيراني على خط الأزمة وأجبر الحكومة على تطبيق خطة للتعامل مع فشل الاتفاق. مع ذلك، بقيت التصريحات الإيرانية تؤكد أنها ستعود إلى تطبيق التزاماتها إذا التزمت الولايات المتحدة بذلك، جاءت هذه التأكيدات على كافة المستويات في إيران مع وضع المرشد الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، إطارًا صارمًا للمفاوض الإيراني بضرورة إزالة العقوبات وأن تختبر إيران صدق الطرف الأميركي على هذا الصعيد كشرط يسبق العودة لتطبيق التزاماتها. وشيئًا فشيئًا، كانت الجهود الرامية لإحياء الاتفاق تفشل، وكانت إيران تتجه إلى مقاربات مختلفة في التعامل مع العقوبات وسياستها الخارجية، وبدأت تقاربًا غير مسبوق مع الصين، وتحدث رئيسها القادم من قلب التيار الأصولي بأن سياسته ستركز على تحييد العقوبات وتعظيم الإنتاج الداخلي وعدم ربط الاقتصاد الإيراني بالاتفاق النووي.
ورغم الاستهداف المتكرر لبرنامجها النووي، وكان من أبرزه تفجير نطنز واغتيال العالم النووي فخري زاده، واصلت إيران تطوير البرنامج، وردَّت على هجوم نطنز بأن بدأت تخصيب اليورانيوم بنسبة نقاء 60 بالمئة. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران ضخَّت اليورانيوم المخصَّب بنسبة 20% في جهاز طرد مركزي متطور، يختلف عن الأجهزة التي تخصب بنسبة 60% في موقع نطنز. وقال بيان الوكالة: إن “إيران ضخَّت اليورانيوم المخصَّب بدرجة نقاء 20%، وهو المستوى الذي يوصف بأنه عالي التخصيب، في جهاز طرد مركزي متطور، غير الأجهزة الأخرى التي تخصِّب حتى درجة نقاء 60% بموقعها في نطنز”.
في الأشهر الخمس الأخيرة من عمر حكومة روحاني، جرى طرح مجموعة من السيناريوهات، بشأن ما ستفضي إليه المحادثات، وافترض أحدها أن إيران مستعدة للتراجع عن مطالبها التفاوضية الرئيسية وفي مقدمتها إزالة جميع العقوبات المفروضة عليها بما في ذلك الخاصة بالاتفاق والتي جاءت من خارج إطاره، وأن تعوِّض الولايات المتحدة إيران عن حملة “الضغط الأقصى” التي شنَّها الرئيس، دونالد ترامب ، وأن تقدم الولايات المتحدة ضمانات بأنها لن تكرر ما فعلته إدارة ترامب في المستقبل. كان هذا السيناريو يتحدث عن إمكانية تخفيض مستوى المطالبات الإيرانية، ولكن ثبت أن ذلك غير ممكن أمام صلابة الخطوط الحمراء التي وضعها آية الله علي خامنئي.
وتحدثت افتراضات أخرى بسطت الحالة بصورة كبيرة عن أن الرئيس الإيراني الجديد ذا التوجه الأصولي لن يفسد احتمالات تجديد الصفقة، وذلك لأن القائد الأعلى له الكلمة الأخيرة في جميع القضايا الرئيسية، بما في ذلك السياسة النووية. لذلك -وفقًا لهذا الافتراض- إذا قرر أن العودة إلى الاتفاق النووي هي في مصلحة إيران، فإن إبراهيم رئيسي لن يقف أمام ذلك، وهذا صحيح في جزئية أن السياسات العليا للجمهورية الإسلامية رهن بالخطوط التي ترسمها القيادة العليا، ولكن وفي الوقت ذاته فهذا لا يعني أن رئيسي وفريقه لديهم توجهات مختلفة.
لقد كان مجيء رئيسي إلى السلطة نتيجة لعملية سياسة أطلقها المرشد الأعلى وتهدف إلى توحيد مؤسسات صنع القرار، وكان من الواضح أنه بات مقصودًا أن تكون منسجمة من حيث الفكر السياسي، وأن ينعكس ذلك في إدارة الملفات في الداخل والخارج.
جدوى اتفاق 2015
ومع مرور الزمن دون أن تجني إيران وعود الاتفاق النووي وخاصة على الصعيد الاقتصادي، بدأ النقاش يتصاعد بشكل جدي داخل إيران حول جدوى العودة إلى الاتفاق النووي، إذا لم يضمن لها القدرة على بيع النفط بصورة معلنة وقانونية، وتحرير ما يقرب من 100 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي المجمدة، والتعامل مع النظام المصرفي الدولي. ويأتي هذا النقاش مدعومًا بتجربة غير مشجعة مع الأطراف الأوروبية وفشل الآلية المالية التي قُدِّمت لتسمح للاتحاد الأوروبي بإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني عن طريق الالتفاف على منظومة العقوبات الأميركية؛ وذلك من خلال قناة “إنستكس”(Instrument in Support of Trade Exchange (Instex)). ولم يتجاوز عدد المعاملات المالية في إطارها أربع معاملات، وقال البنك المركزي الإيراني في بيان له: إن القناة لم تعمل لأن “الدول الأوروبية لم تمتلك الشجاعة الكافية لتنفيذ قدرتها الاقتصادية الوطنية والمستقلة كما أنها لم تعثر على أي سبيل لتمويل هذه القناة”.
البديل
عادت إيران لتصدير النفط رغم السعي الأميركي لتصفير صادراتها، ووفقًا لتقرير وكالة الطاقة الدولية، في شهر مارس/آذار 2021، وصل إنتاج نفط إيران إلى 2.3 مليون برميل يوميًّا، كما أفادت وكالة “رويترز” (Reuters) بارتفاع إنتاج النفط الإيراني في أبريل/نيسان إلى 2.5 مليون برميل يوميًّا، وهو أعلى مستوى منذ نحو عامين. ويبدو أن السوق الصينية هي المقصد الأساسي لعمليات بيع النفط الإيرانية. وتسعى إيران لاستعادة التصدير إلى الهند وفق ما أعلنه السفير الإيراني في نيودلهي مؤخرًا.
وأعلن البنك المركزي الإيراني في أحدث إحصاءاته لـ”المؤشرات الاقتصادية”، أن عائدات النفط في البلاد تضاعفت في ربيع العام الحالي (الربع الثاني من 2021) مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
تعرف حكومة رئيسي أنها بحاجة إلى إنهاء العقوبات وأن استمرار النمو المنخفض، والتضخم المرتفع، وتقلب العملة، وتدهور مستويات المعيشة، ستقود إلى تصاعد مستويات عدم الرضى وترفع من احتمال اندلاع اضطرابات تأخذ عناوين معيشية بصورة أساسية. ویتوقع تقرير أخير لمجلس الأبحاث التابع لمجلس الشورى أن يبلغ عجز ميزانية الحكومة الإيرانية 300 ألف ملیار تومان (ما يزيد عن 10 مليارات دولار) بحلول نهاية العام الإيراني 1400 شمسي (مارس/آذار 2021- 2022). ويقول تقرير المجلس إنه بالرغم من زيادة الإيرادات إلا أن عجز الموازنة لم يتغير بسبب زيادة الإنفاق.
خلاصة
بتأنٍّ، تسير إيران نحو طاولة التفاوض، وتسعى لجعله مقصورًا على الملف النووي، دون أية ملفات أخرى. ويتولى مسؤولية الملف شخصيات لديها موقف ناقد بصورة كبيرة لبنود الاتفاق ولديها شكوك كبيرة بشأن صدق النوايا الغربية، مع ميل لاستخدام مفردات تشير بصورة واضحة إلى أنهم يتبنون نهجًا جديدًا مختلفًا عن الفريق السابق (فريق حسن روحاني).
يتحرك إبراهيم رئيسي في زيارات داخلية مكثفة تبدأ في الأماكن والمدن الأكثر تهميشًا في سعي للاستجابة لحاجات الناس وتخفيف حالة الاحتقان. ودوليًّا، يريد هذا الفريق أن ينجز صفقة، ولكنه سيسير ببطء وتأنٍّ نحوها، وخلال ذلك يحاول أن يزيد من خياراته فيتجه نحو الصين، وينخرط في محادثات إقليمية مع السعودية، ويرسل رسائل واضحة بأن سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي انتهجها روحاني قد انتهت وأن إيران سترد على الاستهداف بمثله.
لقد تكونت لدى طهران قناعة بأن حالة عدم الثقة يجب أن ترافق مسار العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب فيما يتعلق بالتفاوض، وأن التشدد وليس العكس هو الطريق الذي سيقود لإزالة العقوبات أو تحييدها. لا تنفي الصيغة السياسية القائمة في إيران اليوم احتمالية إنجاز صفقة، ولكن السؤال يتعلق بما إذا كانت تقوم على إحياء الاتفاق أو إنجاز اتفاق جديد. وفي كل الأحوال، فمسار التفاوض سيكون صعبًا وطويلًا وبطيئًا.