سينمائيّة الـ”برليناله” الافتراضي: نزوات وأوهام وتوقّعات

كلّ فيلمٍ من الأفلام المُشاهَدة في الدورة الافتراضية لـ"مهرجان برلين السينمائي" يستحقّ أكثر من مُشاهدة واحدة.

ميدل ايست نيوز: بدايات مختلفة تنفتح على عوالم مليئة بتخبّطات وأوهام ورغبات ومكبوتات وخيبات ومواجع وقلاقل. نيلّي (8 أعوام) تودّع عجائز يجلسن في غرفهنّ الصغيرة، في مأوى خاصٍ بهنّ، قبل لقائها والديها اللذين يوضّبان أغراض جدّتها لأمّها، المتوفاة أخيراً. شابتان تستقلّان سيارة أجرة، بعد انتهائهما من جلسة تصوير فوتوغرافي لإحداهنّ في الشارع، وتثرثران كثيراً عن علاقة وحبّ وتحدّيات وفانتازيات مُثيرة لمتابعة مصائر المنخرطين فيها. أقدامٌ لشابين أمام مدخل مدرسة في “كوتايسي” (جورجيا)، تلتقطها كاميرا مثبتة على الأرض، قبل انكشاف عالمٍ مضعضع وأناسٍ يُقيمون في روتين يومياتهم المتكرّرة. امرأة متوترة تصل إلى سجن كبير، وتطلب زيارة سجين، وتكاد تُمنع من ذلك، قبل معرفة الحارس بأنّها تريد وداعه قبل إعدامه.

بدايات مختلفة

هذه بدايات 4 أفلامٍ معروضة في المسابقة الأساسية للدورة الأخيرة لـ”مهرجان برلين السينمائي (برليناله)”، المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021. الأولى في “أم صغيرة” (فرنسا، 2021، 72 دقيقة)، للفرنسية سيلين سيامّا. الثانية في “قصص قصيرة ـ عجلة الحظّ والنزوة” (اليابان، 2021، 121 دقيقة،)، للياباني رياسْكي هاماغتْشي، الفائز بجائزة “الدب الفضيّ ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم”. الثالثة في “ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟” (إنتاج مشترك بين ألمانيا وجورجيا، 2021، 150 دقيقة)، للجورجي ألكسندر كوبُرِدْزَاي. الرابعة في “قصيدة البقرة البيضاء” (إنتاج مشترك بين إيران وفرنسا، 2020، 105 دقائق)، للإيرانيين بهتاش صناعي ها ومريم مقدم.

كلّ بداية تمنح متابعها رغبة في اكتشاف اللاحق عليها، لما فيها من بساطة وسلاسة ولقطات سريعة وإيقاع هادئ أو مضطرب. كلُّ بدايةٍ قصّةٌ، وكلُّ قصة توحي بتتمة لها أو أكثر، لكنّ اللاحق يكشف مسارات أخرى وتفاصيل مغايرة. الواقعيّ حاضرٌ، وإنْ يُغلَّف غالباً بنزواتٍ وغرائبيّات. الجسد والجنس والانفعال تترافق كلّها في سعيّ فرديّ إلى بلوغ أجمل المتع، وأوهام تتجلّى في توقّعات تُخيِّب، أو في انفصامٍ عن وقائع وحقائق، أو في ادّعاء انفصامٍ كهذا. اللعنة تحول دون لقاء شابين، لكنّها تدفعهما إلى مقابلة أحدهما الآخر، من دون أنْ يتعرّف هذا الأحد إلى هذا الآخر.

يتفرّد “أغنية بقرة بيضاء” عن الأفلام الأخرى، بواقعيته وموقفه الإنساني والأخلاقي المناهِض لعقوبة الإعدام. القسوة تبلغ مدى قاهِراً، كتلك القسوة المنبثقة من صدامٍ بين رغباتٍ معطّلة ومشاغل مبتورة وانفعالات تصطدم بانكسارٍ وتمزّق، رغم وهمٍ يقول للفرد، أحياناً، إنّ كلّ شيء بخير. اعتماد الياباني هاماغتْشي على 3 قصص، تختلف كل واحدة منها عن الأخريين تماماً، منطلقٌ للعبة سينمائية تعتمد على كاميرا هادئة في التقاطها مساراتٍ وعلاقاتٍ وأمكنةٍ وانفعالاتٍ، وتوطئة لاختراق عوالم فردية تتشابه في انزلاقها إلى خليطٍ ملتبس وحادٍ بين تخيّلات فانتازية ونزوات غير مكتملة واختباراتٍ بصرية، تجعل هدوء الكاميرا انعكاساً لاضطرابات داخلية، وتصنع من القطع التام بين القصص مداخل إلى سِيَر أفرادٍ غارقين في أوهام عيشٍ.

ذروة المتخيّل الفانتازيّ والنزوات المعطوبة تعثر على شبيهٍ لها، بشكلٍ مختلف، في “ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟”. لقاء صدفة يليه، بعد وقتٍ، لقاء صدفة أيضاً، فيتفق الشابان على لقاءٍ فعليّ في مقهى. هذا عاديّ. لكنّ اللعنة تحوِّل كلّ شيء إلى غير عاديّ. كلّ واحد منهما يستيقظ صباح اليوم التالي فيكتشف أنّه ليس هو. الشكل متغيّر، والناس حولهما لا يعرفانهما. تُطرح تساؤلات عن مسائل تتعلّق باليومي والحياتي والعاطفي والمعيشي، من دون إجابات. هذا حاصلٌ في “أم صغيرة”، إذْ ينفتح الحدث على لقاء غريبٍ بين فتاتين صغيرتين، تكتشف إحداهما بعد زمنٍ أنّ الأخرى أمّها، فتبدأ اللعبة السينمائية في تمرين الكاميرا والتفاصيل والشخصيات والمُشاهدين على مواكبة التداخل العميق بين أزمنة وأنماط حياة وشخصيات، تتبادل مع غيرها أدواراً في المقبل من الوقت.

يكاد ينعدم كلّ فاصلٍ بين الغرائبيّة والنزوات والمتخيّل الجسدي/ الجنسي والرغبات. “أغنية بقرة بيضاء” يتفرّد بواقعيّة بحتة، إلى حدّ أنّ الواقع ـ بحدثه المفصليّ ـ يتحوّل إلى غرائبيّ تتملكه نزوة التسلّط والقمع، رغم كلامٍ يُراد به إظهار طيبة وتسامح وطلب مغفرة. تحوّل يأخذ الحدث إلى مناحٍ أخطر في بيئة تتعنّت في تشدّدها، ويرتكز بعض حاكميها على نصّ قرآني يحمل كلام الله إلى مؤمنيه، رغم خطأ يطيح ببريءٍ. فالمحكوم بالإعدام بريء من جريمة، يعترف مرتكبها لاحقاً بتنفيذها، فيندفع أحد القضاة في رحلة ندمٍ قاتلٍ، يبلغ في نهايتها حدّاً ملتبساً بين موتٍ يُريحه من عذاب، وعيشٍ يجعله يدفع ثمن خطئه يوماً تلو آخر.

نزوات ورغبات

“عجلة الحظّ والنزوة”، يتوزّع على 3 قصص: شابتان وشاب، أستاذ جامعي وشابّة، سيدتان. الغلبة للمرأة. للرجل دورٌ يتمثّل بإثارة نزوة وفانتازيات، أو بتحريضٍ عاطفي على علاقة حبّ وجسد. قصّة السيدتين مختلفة. تتوهم إحداهما بأنّ الأخرى صديقة قديمة لها، فتوافق الثانية على تأدية هذا الدور، قبل اعترافها بحقيقة الأمر، وقبل انقلابها على ذاتها، بدخولها في اللعبة تلبية لنزوةٍ فيها تدفعها إلى محاولة فهم ما يعتمل فيها من شعور وتفكير. لقاء الشابّة بالأستاذ الجامعي، بعد فوزه بجائزة أدبية عن رواية جديدة له، مليء بكلامٍ مباشر وإيحاءات جمّة مرتبطة بنزعة الجنس والمتخيّل الجسديّ. تُسجِّل الشابّة الحوار كلّه، من دون إخباره. في النهاية، تكشف له فعلتها، فيطلب منها إرسال التسجيل له. تخطئ في كتابة عنوان بريده الإلكتروني، فيُفتضح أمره، ويُطرد من الجامعة.

الشابان في كوتايسي يريدان لقاء تُعطّله لعنة، تصنع حالة غريبة بينهما. كلّ واحد منهما يسأل عن سبب عدم التزام الآخر بالموعد المتفق عليه. لاحقاً، سيعملان معاً في المقهى نفسه، لكنّ أحدهما لن يتعرّف إلى الآخر. اللعنة تُدخل كلّ واحد منهما إلى تفاصيل وحسابات وأسئلة. المدينة تعيش روتينها اليومي. علاقة أبنائها بكرة القدم قديمة. هناك ما يشي بغرائبيّة عيشٍ أيضاً، والنزوات معقودة على الجميع، وإنْ تختلف أهداف النزوات باختلاف مراجعها وحيويتها وأنماطها ومساراتها.

سيدتا القصة الثالثة في “عجلة الحظّ والنزوة” تُسرفان في لعبتهما، فتنعدم كلّ إشارة إلى واقع كلّ واحدة منهما: أهما مُصابتان بخلل وارتباك نفسيين، أم أنّهما راغبتان في آخرٍ يعثران فيه على أمانٍ ما؟ ماذا عن فتاتي “أم صغيرة”؟ اللعبة هنا تخترق وجوداً ومستقبلاً وتلاعباً بأزمنة وشخصياتٍ. هناك مرضٌ وخوف من مستقبل وقلق من راهن واختفاءات ربما تحدث، تتمثّل بموت أو مغادرة أو غياب.

الشابتان اليابانيتان، في القصّة الأولى في فيلم رياسْكي هاماغتْشي، تطمحان، كلّ بمفردها، إلى تلبية رغبةٍ ذاتية، جسداً وروحاً. إحداهما تروي للأخرى علاقتها الجديدة بشابٍ، تكتشف الثانية، تدريجياً، أنّه حبيبها السابق. كلامٌ كثيرٌ يُقال في “عجلة الحظّ والنزوة”، لكنْ من دون ثرثرة أو ملل، فالكلام يُفسِّر أشياء ويطرح أسئلة ويُساجل، ضمنياً، في شؤون حميمية. تُصوّر لقطة اللقاء بين الشابتين والشاب في مقهى فعلاً سيئاً ترتكبه الحبيبة السابقة، بفضحها علاقتها به أمام صديقتها. لكنّ هذا غير واردٍ، فالوقائع تُشير إلى مغادرتها تاركة إياهما معاً. هذا يُشبه قليلاً ما ترغب في فعله زوجةُ المحكوم عليه بالإعدام، بعد اكتشافها حقيقة من يصنع خيراً معها. تتخيّل أنّها تُسمّم كأس الحليب الذي يشربه. لكنّ شيئاً ما يوحي بالتباس اللحظة: هل السم موجود فعلياً في الكأس، أم أنّ المتخيّل يُسيطر على تلك اللقطة، نابشاً نزوة مدفونة في أعماق الأرملة، تقودها إلى انتقام معطّل؟

كاميرا وأضواء

المشترك بين “أم صغيرة” لسيلين سيامّا، و”ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟” لألكسندر كوبُرِدْزَاي، تحديداً، كامنٌ في سردهما وقائع أحداثهما وحكايات ناسهما بلغة لا علاقة لها بالواقع. التلاعب السينمائيّ ممتع. الواقع يحضر في طيات النصين، لكن التعبير عنه منضوٍ في الإيحاء بأنّ “الحياة اليومية” أغرب من الخيال. الفيلم الياباني “عجلة الحظّ والنزوة” لرياسْكي هاماغتْشي مختلف. سطوة الجسد وفانتاسماته أقوى من تقييد التعبير عنها (السطوة والجسد والفانتاسمات) بتبسيط ومباشرة. “أغنية بقرة بيضاء” يُبيِّن مأساة الإعدام بوضوح تام، لكنّه يرفض العقوبة ضمنياً، أي بلغة مواربة تريد للرفض أنْ يتمثّل بكشف المآسي الفردية الناجمة عنه. هذا يُشبه “لا يوجد شيطان” (2020)، لمحمد رسول أف، في نقد الإعدام ورفضه. يُصوِّر الثنائي بهتاش صناعي ها ومريم مقدم تداعيات إعدام بريء على عائلته، وعلى مُوافقٍ على حكم الإعدام، من خلال قصة واحدة. محمد رسول أف يروي 4 قصص عن 4 “جلّادين” ومعاناتهم.

كلّ فيلمٍ من الأفلام المُشاهَدة في الدورة الافتراضية لـ”مهرجان برلين السينمائي” يستحقّ أكثر من مُشاهدة واحدة. الراوي في “ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟” يتكامل مع كاميرا فَراز فيشاراكي في تبيان حالة وانفعال، كتبيان سلوك وحركة ومنظر. الألوان فاتحة أحياناً، والعتمة قاسية. يتناقض هذا مع كاميرا يوكيكو ليوكا (عجلة الحظّ والنزوة)، المعتمدة أكثر على ألوان فاتحة، وعلى تصوير يميل إلى الموازنة بين لقطات قريبة وأخرى بعيدة. بينما كاميرا كلير ماتون (أم صغيرة)، ترسم بألوان الطبيعة الماطرة حكاية أم وابنة وموت وغياب، بسلاسة تتناقض وغليان الانفعال واللحظات والقلق. أما أمين جعفري، فيبدو كمن يترك الكاميرا تنساب وحدها في مرافقة امرأة تبحث عن عيشٍ هانئ، وعن سلامٍ ذاتي، وعن إنصافٍ بعد انكشاف الحقيقة.

هذه أفلامٌ توثِّق حكايات نساءٍ يبحثن عن خلاصٍ أو أمانٍ، ويجهدن في تلبية رغباتٍ وأهواء ونزوات، ويرغبن في خروجٍ آمن إلى عالمٍ مختلف. للرجال معهنّ علاقات ونزوات وحاجات، لكنهنّ يُتقنّ تواصلاً معهم، لرغبةٍ في ذلك، أو لاختبار تلاعبٍ أو تجربة علاقة. متعٌ سينمائية تصنعها مشاهدتهنّ في عيشهنّ أمزجةً وأوهاماً، أو في سعيهنّ إلى انتقام ملتبس، أو في شغفهنّ القلِق.

هذا عائدٌ إلى حِرفية مهنيّة تذهب بصانعيها ومعهم إلى أقصى حدود التجريب.

 

قد يعجبك:

7 أفلام من الشرق الأوسط عام 2020 لا تفوتك مشاهدتها

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − ستة =

زر الذهاب إلى الأعلى