بقاء العقوبات سيدفع إيران لتغيير توجهاتها الاستراتيجية

سيكون للفوز الذي حققه رئيسي في الانتخابات الرئاسية آثار مهمة على علاقات إيران مع العالم الخارجي.

ميدل ايست نيوز: انتُخب إبراهيم رئيسي (وهو سياسي أصولي) رئيسا لإيران في 18 حزيران/يونيو 2021. وبذلك فإنه سيخلف حسن روحاني، الرئيس المعتدل المنتهية ولايته، مطلع شهر آب/أغسطس 2021. وسيستلم رئيسي منصبه في مرحلة حاسمة تخوض خلالها إيران مفاوضات تقنية في فيينا مع الغرب بهدف إحياء الاتفاق النووي المعروف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”.

وسيكون للفوز الذي حققه رئيسي في الانتخابات الرئاسية آثار مهمة على علاقات إيران مع العالم الخارجي. كما سيكون له تأثيره، أيضا، على البيئة الاستراتيجية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط وخارجها.

يثق المرشد الأعلى لجمهورية إيران الإسلامية، آية الله علي خامنئي، صاحب الكلمة الأخيرة في جميع شؤون الدولة، في الرئيس الإيراني الجديد. ومن المتوقع جدّا ألاّ تكون إدارة رئيسي القادمة على خلاف مع المؤسسات الأخرى داخل النظام الحاكم في إيران، لأن الأصوليين سيبسطون سيطرتهم على سلطات الحكم الثلاث، ما يعني تقليل إمكانية حدوث مشاحنات سياسية داخلية، أو غياب كامل للاقتتال الداخلي، وهو ما سيفسح المجال أمام إبراهيم رئيسي للتركيز على معالجة القضايا الملحّة.

وعلى غرار المرشد، فإنّ لدى رئيسي أيضا شكوكه في نيات الغرب، غير أنه كان داعما لخوض المفاوضات النووية مع الغربيين بهدف إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، كما أنّه وعد بخلق فرص عمل ومعالجة معضلة البطالة. غير أنّه من غير المرجح تحقيق ذلك الوعد، أو على الأقل سيكون من الصعب تحقيقه في ظلّ استمرار العقوبات الاقتصادية الصارمة المفروضة على إيران. كما أن رئيسي يعي جيدا أنّ تحقيق النمو الاقتصادي في إيران يتطلب بالضرورة رفع العقوبات عنها، وعلى هذا الأساس فهو ملتزم بخطة العمل الشاملة المشتركة، ولن يشكل انتخابه عقبة في طريق استعادة الاتفاق النووي.

العربي الجديد: خطوط حمراء رئيسي تصطدم بتحديات داخلية وخارجية كبيرة

باختصار، سوف يشهد عهد رئيسي تصعيدا في لهجة إيران تجاه الغرب، غير أنه من المرجّح أن يواصل رئيسي السير في نهج الضغط حتى يدفع واشنطن نحو العودة إلى الانضمام لخطة العمل الشاملة المشتركة، من ناحية، ورفع العقوبات التي فرضتها على إيران، من ناحية أخرى.

تجادل هذه الورقة بأنه لن يطرأ أيّ تغيير على اتجاه إيران الاستراتيجي في عهد رئيسي، إلا أنّ سياسة طهران الخارجية ستشهد تغييرات واضحة على المستوى التكتيكي، بالإضافة أيضا إلى تغيير في لهجتها، كما ستكون هناك تغييرات في ترتيب الأولويات لديها.

كما تجادل الورقة، أيضا، بأن ما سيحدث مستقبلا سيعتمد، إلى حد كبير، على إرادة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن السياسية في إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة من خلال رفع العقوبات أو التسبب في وأدها، ومن ثم إجبار إيران على إعادة النظر في أيّ اتجاه استراتيجي عليها اتخاذه.

السياسة الخارجية الإيرانية في عهد رئيسي

أعلن رئيسي عزمه السعي أولا على إعادة ترتيب الوضع الداخلي للبلاد. وسيبحث في المقام الأول عن حلول من داخل البلاد لا من خارجها. وهذا يعني أنه سيحتاج، بقدر أكثر مما فعلته إدارة روحاني المنتهية ولايتها، إلى مكافحة الفساد وسوء الإدارة وتوظيف الإمكانيات الداخلية، بالإضافة إلى سعيه لإعادة تنشيط القدرات الداخلية المتوفرة في إيران إلى حدودها القصوى.

اتّسمت مواقف روحاني، الوسطي، ومعسكره بالتفاؤل، حيث علقوا الكثير من الأمل على إعادة تفعيل خطة العمل الشاملة المشتركة، ومن ثم التوصل إلى اتفاق يقضي برفع العقوبات المفروضة على إيران، غير أن تلك التجربة كانت مهينة. فقد أضر انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2018، بالدبلوماسية والاقتصاد الإيرانيين، وهو ما أدّى إلى فقدان روحاني مصداقيته، كما عمّق الانسحاب الأمريكي من خطة العمل الشاملة المشتركة مستوى عدم الثقة بين طهران وواشنطن.

لقد كان لمدرسة الليبرالية الفكرية في العلاقات الدولية آثار واضحة على فريق روحاني المكلّف برسم السياسة الخارجية، وفي المقابل فإنه من المتوقع أن يسترشد فريق رئيسي بمزيج من مدرستي الفكر بشقّيها الواقعي والبراغماتي.

من ناحية أخرى، فإنه من المؤكد أن إدارة رئيسي لن تشاطر روحاني تفاؤله، بل على العكس من ذلك، ستكون متشكّكة للغاية في نيات واشنطن. كما سيمثّل تنصيب رئيسي نقطة البداية لنهجٍ في السياسة الخارجية أكثر حزما وتشدّدا، في حين سيظلّ المسار العام للاستراتيجية الإيرانية دون تغيير يذكر، ذلك أن تحديد أهداف السياسة الخارجية الإيرانية عادة ما يكون بتوافق الآراء داخل المجلس الأعلى للأمن القومي حيث يمثّل الرئيس وأعضاء حكومته نصف مجموع أعضائه العشرة، وكان المرشد الأعلى قد وافق على جميع قرارات المجلس الأعلى للأمن القومي تقريبا. لذا، فإنه في الوقت الذي ستختار فيه إدارة رئيسي انتهاج تكتيكاتها الخاصة، فإنها ستعمل أيضا ضمن حدود الأهداف والأولويات والخطوط الحمراء التي وضعها المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يمثّل أعلى هيئة لصنع القرار الأمني في إيران.

ما من شك في أن رفع العقوبات يمثّل أولوية لإدارة رئيسي، لكنها لن تشلّ حركة إيران وتحبسها في انتظار رفعها. في الوقت ذاته، يُعتقد أنّ إيران ستسعى، أوّلا، إلى كسر تلك العقوبات. لذا، فالتغيير الحكومي القادم سيُحدث تبدّلا في ترتيب الأولويات، وهذا يعني أن إجهاض فعالية العقوبات سيمثّل أولوية تتقدّم عن رفعها. ولهذا، فإن تطبيع وتطوير العلاقات مع دول الجوار الإيراني وتعزيز المنتجات من الصادرات غير النفطية سيكون على رأس جدول أعمال رئيسي.

صرّح الرئيس المنتخب، إبراهيم رئيسي، في أول مؤتمر صحفي تلا فوزه في الانتخابات، بأنه “لن تقتصر سياستنا الخارجية على الاتفاق النووي، بل إننا سنتفاعل مع العالم، ولن نربط مصالح الشعب الإيراني بالاتفاق النووي.. نحن نؤيد المفاوضات التي تضمن مصالحنا الوطنية، وعلى أمريكا أن تعود فورا إلى الاتفاق النووي وأن تفي بالتزاماتها بموجبه”. كما وعد رئيسي بتشكيل حكومة “قوية” قادرة على توجيه المحادثات في “الاتجاه الصحيح”.

يقول سيد رضا موسوي نيا، الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية في جامعة العلامة طباطبائي في طهران إن “التوافق الداخلي سيساعد رئيسي على انتهاج سياسة خارجية أقوى قائمة على “التفاعل والردع”، مضيفا: “ستسير إدارة رئيسي في ذات الاتجاه الاستراتيجي الذي سارت عليه إدارة سلفه روحاني، غير أنها ستعتمد لهجة جديدة”.

ويرى في تحليله أن: ” رئيسي سيحظى بمستوى أعلى من الدعم من المرشد آية الله خامنئي، مقارنة بالرؤساء الذين سبقوه. وبالتالي، فإن رفع مستوى التنسيق مع مكتب المرشد الأعلى سينعكس بالإيجاب على تسهيل تنفيذ الخطط السياسة الخارجية للرئيس رئيسي”.

ماذا يعني انتخاب رئيسي بالنسبة للطاقة في إيران؟

ويمضي موسوي نيا مجادلا بأن روحاني تمكّن من التواصل مع واشنطن، كما توصل إلى إبرام اتّفاق تاريخي مع القوى العالمية آملا في أن يجني فوائده الاقتصادية وأن يتمتّع بالمزايا الإقليمية التي توقّع أن تجلبها خطة العمل الشاملة المشتركة لبلاده. غير أنّ انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي، وما تلاه من اتباع إسرائيل والسعودية والإمارات سياسات معادية لإيران، كل ذلك أضرّ جدّيا بهذه الاستراتيجية.

وقال موسوي نيا: “كانت خطة العمل الشاملة المشتركة هي الشجرة التي زرعها روحاني آملا قطف ثمارها، لكنها انقلبت إلى كارثة محدقة بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي. هذا بالإضافة إلى أن فشل أوروبا في الحفاظ على دورها في الاتفاق زاد الأمر سوءا، وهو ما دفع طهران إلى خفض التزاماتها تدريجيا ببنود خطة العمل الشاملة المشتركة”.

وأضاف موسوی نيا: “إن رئيسي قد تعلّم من عدم وفاء الولايات المتحدة وأوروبا بما قطعتاه من وعود في السابق، وبناء على ذلك، فإنه سيسعى إلى الدفع بمحادثات فيينا إلى الأمام، وسيسعى، في نفس الوقت أيضا، إلى كبح تصعيد التوتّر بين طهران وخصمها الإقليمي اللدود الرياض، وسيحاول أيضا ابتكار توازنات تحكم علاقات إيران مع جيرانها من جهة، ومع القوى العالمية من جهة أخرى”.

وبالعودة إلى عام 2017، أي قبل انسحاب أمريكا من خطة العمل الشاملة المشتركة بعام كامل، وخلال حملته الرئاسية الأولى التي لم تحمله إلى كرسي رئاسة إيران، قال المرشح رئيسي حينها: “ينبغي على أيّ إدارة تأتي إلى السلطة الالتزام بخطة العمل الشاملة المشتركة، فالاتفاق النووي يظلّ وثيقة وطنية، على الرغم مما يتضمّنه من أوجه القصور”.

من جهة أخرى، أعرب رئيسي عن اهتمامه باحتواء التوترات مع الرياض، قائلا إنه ليس لدى إيران “أي مشكلة” فى إعادة فتح السفارة السعودية في طهران، وإنّه “لا عوائق تمنع إعادة العلاقات بين البلدين”، مضيفا: “لا يضع الجانب الإيراني أيّ عقبات أمام إعادة فتح السفارات (…) ولا توجد عقبات أمام العلاقات مع السعودية”. غير أنّ تفاعل المسؤولين السعوديين مع تلك التصريحات لم يتجاوز حدود قولهم: إنّ الرياض ستحكم على حكومة رئيسي من خلال ما ستراه منها على “أرض الواقع”.

ويبدو أنّ فشل حملة “الضغط الأقصى” التي مارسها ترامب على طهران -والتي صاحبها انتهاج ولي عهد السعودية محمد بن سلمان سياسة خارجية تتسم بالمغامرة- قد يشجّع الرّياض على تغيير مسارها، وقد ينقلها من مرحلة العداء إلى القبول بالتفاوض مع طهران.

أما على مستوى العلاقات مع واشنطن، فقد أكد رئيسي على أنه لن يلتقي نظيره الأمريكي، جو بايدن، حتى لو أتيحت الفرصة لعقد لقاء بينهما، وأن مضيّ إيران في برنامج صواريخها البالستية واستمرار دعمها لحلفائها في الشرق الأوسط لن يُطرحا على طاولة التفاوض. فطهران تعتبر أنّ ملفيّ برنامجها الصاروخي ونفوذها في الشرق الأوسط ركيزتان لاستراتيجيتها في الردع… وحتى لو وصلت إدارة يهيمن عليها الإصلاحيون إلى الحكم فسيصعب عليها التفاوض بشأن أيّ منهما. وتؤكد طهران أنّ إطار خطة العمل الشاملة المشتركة يجب أن تقتصر على القضية النووية، وأن من شأن إثارة قضايا خارج الإطار النووي أن تقود إلى مراوحة المحادثات مكانها لسنوات دون التوصل إلى اتفاق بشأنها.

“التحوّل نحو آسيا.. اقتصاد المقاومة”

لم ينفكّ حلفاء رئيسي يجادلون بأن إدارة روحاني كانت تعوّل على الغرب لحل مشاكل إيران الاقتصادية وتحقيق النمو الاقتصادي فيها، إلا أنه لم يحصل إلا على “وعود فارغة وعقوبات غير مسبوقة”. أما إدارة رئيسي فسوف تستكشف فرصا جديدة للتجارة مع العالم بأسره، ولن تقتصر في ذلك على الغرب وحده.

وفي هذا السياق، صرّح المرشح الرئاسي وحليف رئيسي، سعيد جليلي، بأن “السياسة الخارجية لا تعني أن نُبقي بلادنا تنتظر ما ستقرّره تجاهنا مجموعة قليلة من الدول، بل علينا ترجمة إمكانات فرص التجارة والتعاون مع أكثر من 200 دولة إلى واقع ملموس”. وأضاف جليلي: “يمكننا جعل العدو يندم على فرضه تلك العقوبات علينا”.

إبراهيم رئيسي وإشكاليات الداخل والخارج

وفي هذا السياق فإن ثمة اعتقادا بأن رئيسي من مؤيدي اتفاقية التعاون الاستراتيجي، وهي اتفاق إطاري بين طهران وبكين لمدة 25 عاما تمّ التوقيع عليه في مارس/آذار عام 2021 بهدف رسم مسار العلاقات الإيرانية الصينية للرّبع القادم من القرن الحادي والعشرين.

وتتضمّن تلك الاتفاقية ضخّ الصين استثمارات ضخمة لتطوير قطاعات تشمل الطاقة والبتروكيماويات والبنية التحتية، بالإضافة إلى مشاريع بحرية من أجل تعزيز دور إيران فيما يعرف بمبادرة الحزام والطريق الصينية. لذا، فإنه من المتوقع أن تسعى حكومة رئيسي إلى تحسين علاقات إيران مع أوراسيا بشكل عام، والصين وروسيا بشكل أخصّ.

وفي حديثه لكاتب هذه الورقة، قال المحلل السياسي عماد آبشناس: “في الوقت الذي كانت فيه الحكومات المعتدلة، ذات التوجهات الليبرالية والإصلاحية والوسطية المتعاقبة في إيران، تتجه نحو الغرب في الماضي، نجد أنّ رئيسي يفضّل إحداث توازن في علاقات إيران الخارجية… أتوقع من إدارة رئيسي انتهاج سياسة جديدة متمثلة في “التحول نحو آسيا” بتصميم أقوى، بالتوازي مع حفاظها على مستوى من العلاقات وإدارة التوترات مع الغرب. لذا، فإن توسيع العلاقات التجارية مع جيران إيران المباشرين وتعزيز العلاقات مع الدول الآسيوية، وتحديداً مع الصين، سيكون ضمن الأهداف العليا لاستراتيجية التجارة الخارجية الإيرانية وهذا ما يجعل رئيسي على توافق وثيق في الآراء حول القضايا الرئيسية مع المرشد الأعلى. فرئيسي يعتقد أنّ حل مشاكل إيران الاقتصادية لا يكمن في رفع العقوبات، بل في تبنّي استراتيجية تهدف إلى تحصين إيران من تأثير العقوبات الخارجية عبر توسيع ما يُسمّى بسياسة “اقتصاد المقاومة”. وتتمثّل سياسة “اقتصاد المقاومة” هذه في العمل على حماية للاقتصاد الإيراني، وتهدف إلى زيادة حجم الإنتاج المحلّي وتحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي، مع رفع مستويات الصادرات وتقليص الواردات للتمكّن من تحقيق النمو الاقتصادي.

وفي تقديره للموقف يرى آبشناس: “في نفس الوقت الذي ستبذل فيه إدارة رئيسي جهودا لرفع العقوبات، فإنها ستعمل أيضا على مواجهة العقوبات المفروضة عليها وتجاوزها وتحصين الاقتصاد الإيراني من التعرّض للتأثّر، وذلك من خلال توسيع سياسة” الاقتصاد المقاوم”. لذا، فإنّ إدارة رئيسي لن تغادر طاولة المفاوضات النووية، لكنها ستضع قضية تحصين إيران من تأثير العقوبات عليها على قمّة أولوياتها، بل إنها ستقدّم أهميّتها على المفاوضات ورفع العقوبات.

لتحقيق ذلك الهدف، هناك من يجادل بأن إدارة رئيسي ستنظر إلى العقوبات الأمريكية المفروضة من جانب واحد، باعتبارها فرصة لوقف بيع النفط الخام -لسهولة تعرّضه لفرض عقوبات عليه- والعمل على تصدير السلع ذات القيمة المضافة مثل البنزين وزيوت المحركات والقطران، وغيرها من المنتجات المشتقّة من البترول التي تشهد تزايدا في الطلب عليها، وبالتالي فإنه يصعب تعرّضها للعقوبات.

ويعزّز هذا التوجه الإيراني ما كان رئيسي قد تعهّد به، خلال مداخلاته ضمن الحوارات المتلفزة الخاصة بالانتخابات الرئاسية، بإعطاء “الدبلوماسية الاقتصادية” أولوية قصوى بهدف زيادة صادرات إيران. وكان رئيسي يكرّر الإشارة إلى دول الجوار الإيراني الخمس عشرة وأسواقها التي تضمّ نصف مليار نسمة، مرتئيا أنه يجب على إيران، التي لا تهيمن إلا على حصة ضئيلة من تلك الأسواق، أن تعزّز مستويات التجارة مع دول الجوار.

وبالإضافة إلى ما تقدّم، فقد وعد رئيسي أيضا بخفض الضرائب على المنتجين المحليين، وتحصيل الضرائب من رجال الأعمال الأثرياء المتهربين من دفعها، وذلك عبر إنشاء نظام ضريبي ذكيّ جديد ومحاربة تهريب السلع وتأكيد جاذبية الإنتاج المحلّي، وذلك بإدخال المزيد من الإصلاحات الاقتصادية. كما أعلن رئيسي، في خطاباته أثناء تنفيذ حملته الرئاسية، أنه سيعتبر اقتصاد السواحل والمحيطات مصدرا مستداما لنموّ الاقتصاد الإيراني، حيث تمتلك إيران أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر من الحدود البحرية.

وقد تعهّد رئيسي بسعي إدارته لتحقيق أكبر استفادة من تلك الإمكانات الهائلة وتوجيه فوائدها نحو خلق فرص عمل جديدة واستئصال الفقر. غير أنّ سبيله لتحقيق تلك الوعود لم يتكشّف بعد. وتعليقا على ذلك يجادل موسوی نيا بقوله: ” إذا كانت إيران قوية وتمتلك نفوذا اقتصاديا، فسيكون بإمكانها حينئذ حلّ مشاكلها وخلق ما يكفي من قوة الرّدع. غير أن ذلك لا يعني إغلاق إدارة رئيسي باب الحوار مع الغرب. وفي هذا السياق، فإن اتفاقية التعاون، الممتدة لربع قرن قادم، مع الصين تمثّل أحد الحلول الممكنة لإفراغ العقوبات الأمريكية من تأثيراتها على الأمة الإيرانية”.

فرصة ذهبية لتتويج المفاوضات باتّفاق

أمام الولايات المتحدة فرصة ذهبية للانضمام من جديد إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ورفع العقوبات خلال الفترة الانتقالية الحالية التي تشهدها إيران، أي قبل تنصيب رئيسي في أوائل أغسطس القادم. وعن هذا الموضوع، يعتقد آبشناس أنّ الأسابيع الستّة، الفاصلة ما بين ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية وموعد تنصيب رئيسي رئيسا للبلاد، تمثّل فرصة فريدة لإنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة من الانهيار.

ويضيف: “لدى كلّ من بايدن وروحاني مصلحة في التوصل إلى اتفاق محتمل قبل حلول موعد الذكرى السادسة لتوقيع خطة العمل الشاملة المشتركة في 15 يوليو/تموز.. وإذا ما توصلت فرق التفاوض في فيينا إلى اتفاق بشأن المحادثات الفنية قبل مغادرة روحاني لمنصبه، فإن رئيسي سيحترم مخرجات ذلك الاتفاق، أما إذا ضاعت الفرصة ولم تُرفع العقوبات، فسيكون التوصل إلى اتفاق في وقت لاحق أمرا أكثر صعوبة، إن لم يكن مستحيلا، لأنه من المنتظر أن يتبنّى فريق التفاوض الإيراني في عهد رئيسي نهجًا أكثر صرامة.

لقد كان الاتفاق المؤقت، الذي توصلت إليه إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فبراير الماضي لمدة ثلاثة أشهر، آخر ضحية للتوجه الأمريكي في مقاربة الملف النووي الإيراني. وقد انتهت صلاحية الاتفاق الفنّي، ما يعني أنه لن يكون بإمكان الوكالة الدولية للطاقة الذرية الوصول إلى البيانات المجمّعة عن طريق كاميرات المراقبة المزروعة داخل المنشآت النووية الإيرانية. وبامتناع إيران عن تمديد ذلك الاتفاق مرّة أخرى، تكون قد قلّصت من فاعلية مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية لنشاط إيران النووي.

ما الذي سيحدث لاحقا؟

هناك اقتناع لدى الاستراتيجيين الإيرانيين بعدم تغيّر توجّه الولايات المتحدة الاستراتيجي تجاه إيران. فقد كان إضعاف إيران اقتصاديًا ومنع ازدهارها وتنميتها الاقتصادية هدفًا رئيسيًا لمختلف الإدارات الأمريكية، الجمهورية منها والديمقراطية. وتقتضي حسابات القادة الأمريكيين أن تقدّم الدولة الضعيفة تنازلات، ويتوقّعون رضوخها في نهاية المطاف لما ستفرضه أمريكا.

غير أن خطة العمل الشاملة المشتركة كانت فرصة استثنائية على امتداد 42 عاما من تاريخ الصراعات المريرة بين طهران وواشنطن، وكان بإمكانها أن تكون الاتفاق الوحيد المربح للجانبين، وأن تقلّص من حواجز انعدام الثقة بين الخصمين اللّدودين، لكن انسحاب ترامب من الاتفاق فاقم من تصدّع علاقات البلدين.

أما اليوم، فتعد محادثات فيينا اختبارًا لإرادة أمريكا ومعرفة ما إذا كان بايدن سيفي بوعوده التي أعلنها أثناء حملته الانتخابية، بعودة أمريكا للانضمام إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ورفع العقوبات عن إيران، أم إنه سينكُثها.

هذا، وتجدر الإشارة إلى أن العوائق التي تحول دون إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة معقدة، لكنها ليست عصيّة على الحل. فإذا قبلت واشنطن برفع العقوبات، فسيكون من المرجح أن تعود إيران إلى الامتثال الكامل للاتفاق. لكن، إذا لم تُرفع العقوبات، فإنه سيُقضى نهائيا على خطة العمل الشاملة المشتركة.

لقد كان في وسع بايدن إصدار أوامر تنفيذية برفع بعض العقوبات عن إيران في أول أيام عُهدته في العشرين من يناير، لكن أمريكا لم تعد إلى الانضمام لخطة العمل الشاملة المشتركة بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على تنصيب بايدن رئيسا، وهو ما عزّز من شكوك طهران وتقديرها أن البيت الأبيض ليس في عجلة من أمره لرفع العقوبات، وأن بايدن إنما يهدف إلى خلق إجماع دولي ضدّ إيران، ومثل هذا النهج الانتهازي سيزيد، حتما، من صعوبة إنقاذ الاتفاق إذا لم تُفْض المحادثات الجارية إلى اتفاق قبل حلول موعد تنصيب رئيسي.

وفي هذا الإطار، فإن آبشناس لايعتقد “أن ترفع واشنطن كل العقوبات.. ما يريده صانع القرار الأمريكي هو الحفاظ على هيكل العقوبات كما هو، مع تقديم عرض برفع بعض العقوبات فقط. فواشنطن تستخدم العقوبات أداة تحقّق بها أهداف سياستها الخارجية، وبالتالي فإنها لن تتخلى عن أهم ما لديها من أدوات الضغط”.

أمّا على الجانب الإيراني، فإنه ليس في وسع طهران القبول بفكرة تخفيف بعض العقوبات، وفي أحسن الأحوال، فإنّ رفعا أمريكيا جزئيا للعقوبات قد يقابل إيرانيا بعودة طهران، جزئيا فقط، إلى الالتزام بالاتفاق النووي. ومن

جهة أخرى، يبدو واضحا أنه ليس بإمكان إدارة بايدن مواصلة سياسة “الضغط الأقصى”، التي انتهجها ترامب ضد إيران، والعمل على إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة في ذات الوقت. أما نتائج فشل بايدن في رفع العقوبات فقد أدّت، فعليا، إلى خلق إجماع في الداخل الإيراني على وجوب أن تسلك طهران طريقها الخاص.

وفي هذا السياق، قال الأستاذ المتخصص في دراسات أمن الشرق الأوسط والسياسة النووية في جامعة برينستون، حسين موسويان خلال حديثه لكاتب هذه الورقة: إنّ ما سيحدث في المستقبل، يعتمد بشكل أساسي، على ما ستفعله إدارة بايدن. فبلاده هي التي انسحبت من خطة العمل الشاملة المشتركة وليس إيران، وأفعال أمريكا هي التي ستحدّد مساري إيران والولايات المتحدة في المستقبل.

أما على المستوى الإيراني، ووفقا لحسابات قادة إيران، فإنه بإمكان تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم خلق “ردع افتراضيّ”، وهو ما يعني أن إيران ستمتلك دورة تكنولوجيا الوقود النووي، وأنها ستنقل برنامجها النووي إلى مرحلة متقدمة، لكن دون أن تبلغ به حدّ مرحلة التسليح. وهو ما يعني أيضا أنه سيكون لإيران “قوة نووية افتراضية” دون بلوغ مرحلة بناء قنبلة ذرية، أو انتهاك التزاماتها التي توجبها عليها معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.

لقد خلص القادة الإيرانيون إلى أنه سيكون من الحكمة أن تقدّم الجمهورية الإسلامية تنازلات نووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عن كاهلها. فقد اختاروا القبول بقيود غير مسبوقة على برنامج إيران النووي في مقابل أن يتمكّنوا من الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي، وأن يعيش شعبهم بعيدا عن العقوبات، وكانت خطة العمل الشاملة المشتركة تتويجا لسلوك هذا النهج المتّزن.

ولهذا السبب، أيضا، تخلت إيران عن مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، كما تخلّت أيضا عن 97% من مخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب (3.6%). ولنفس السبب كذلك أوقفت إيران استخدام أجهزة الطرد المركزي المتطورة، وملأت قلب مفاعلها للماء الثقيل في أراك بالإسمنت المسلّح، وقبلت بالمزيد من القيود بما فيها فرض مراقبة غير مسبوقة على عمل منشآتها النووية. لقد كان القبول بتلك القيود من أجل هدف واحد هو الحياة من دون عقوبات. والسؤال الذي يُطرح هنا هو: إذا فشلت واشنطن في رفع العقوبات، فما الذي يحمل طهران، إذن، على وضع خطوط حمراء لبرنامجها النووي؟

إن إصرار إيران على عودة أمريكا إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ورفع العقوبات عنها، تعني أن الجمهورية الإسلامية تفضّل أن تكون جزءًا من الاقتصاد العالمي. وهذا يعني أنه ليس لدى إيران لا النية ولا الإرادة السياسية لتسليح برنامجها النووي. لذا، فإن ما سيحدث بعد ذلك سيعتمد إلى حد كبير على إدارة بايدن. فرفع العقوبات سيساعد على تهدئة التوترات واستعادة التزام إيران وعودتها الكاملة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، بينما

سيكون من المرجح أن يدفع فشل واشنطن في رفع العقوبات قادة إيران إلى إعادة النظر في توجههم الاستراتيجي.

وفي هذا السياق، فإنه يجب أخذ تحذيرات وزير المخابرات الإيراني، محمود علوي، على محمل الجد عندما ألمح إلى أن إيران قد تضطر إلى إعادة النظر في سياستها وتطوّر سلاحًا نوويًا إذا ما استمرت العقوبات المفروضة عليها. وقد جاء على لسان الوزير علوي في فبراير 2021: “إذا حاصرتَ قطّا فإنه سيُظهر، على الأغلب، نوعًا من السلوك لا يأتيه القط الحرّ”. فإذا ما دفع الأمريكيون إيران نحو ذلك المسار فلن تكون حينها إيران مذنبة، بل المذنبون هم أولئك الذين دفعوها نحو هذا الخيار”.

إذا حدث ذلك، فإنه سيكون النتيجة المباشرة لانسحاب أمريكا من خطة العمل الشاملة المشتركة ورفضها رفع العقوبات عن إيران، كما أنه من شأن حرمان إيران من المزايا المُضمّنة في خطة العمل الشاملة المشتركة أن يدفع الاستراتيجيين الإيرانيين إلى استنتاج أن بلادهم، التي يبلغ عدد سكانها 83 مليون نسمة، ستخضع لعقوبات في كل الأحوال وبغض النظر عمّا تفعله، ودون اعتبار لما إذا كانت تمتثل لخطة العمل الشاملة المشتركة بالكامل، أم لا، وليس من الحكمة في شيء دفع إيران نحو هذا المسار.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
مركز الجزيرة للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى